نهاية الغموض الأميركي ومعركة الرقة



باتت الخطط الأمريكية في العراق وسوريا أكثر وضوحا في عهد الرئيس ترامب الذي تقوم سياسته على براغماتية فجة مفرطة الوضوح بخلاف براغماتية الرئيس السابق أوباما التي اتسمت سياسته بالعموض والالتباس والمراوغة رغم أن ترمب بسير على خطى أوباما في القضايا الخارجية الرئيسة ويعتمد على الخطوط الاستراتيجية الكبرى التي خطتها إدارة أوباما في الشرق الأوسط وخصوصا المناطق الساخنة وفي مقدمتها العراق وسوريا ومعاركها الأساسية في الموصل والرقة.


عمدت إدارة ترمب إلى تخليص سياسة أوباما من المواربة والغموض في التعامل مع الحلفاء والأعداء ولم تعد تبعث برسائل ملتبسة حينا ومتناقضة أحيانا فقد تحدثت إدارة أوباما عن موقفها تجاه سوريا دون أدنى التباس وأن أولويتها تتمثل بالقضاء على تنظيم الدولة الإسلامية وأن إزاحة الأسد ليست أولوية وتبدو معركة الرقة نموذجا إرشاديا كما هي معركة الموصل وقد وضعت إدارة أوباما خطوطهما الرئيسية فالخطة الجديدة القديمة للولايات المتحدة باتت واضحة المعالم حيث تسلم الرئيس الأميركي دونالد ترامب في 27 شباط 2017 التوصيات التي وضعها البنتاغون ليختار منها المناسب لتسريع القضاء على تنظيم «الدولة الإسلامية».

لم تعد الخطة التي وضعتها وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) من أجل الهجوم المُقبِل على الرقة سرية وهي تستند إلى زيادة كبيرة في المشاركة العسكرية الأميركية بما في ذلك زيادة قوات العمليات الخاصة وطائرات الهليكوبتر الهجومية، والمدفعية وإمدادات الأسلحة إلى القوات المقاتِلة الرئيسية على الأرض من الكرد والعرب السوريين في «قوات سوريا الديمقراطية» وإنشاء قاعدة عسكرية ضخمة في قرية «تل بدر» في شمال شرق سوريا ونشر ألف جندي موجودون بالفعل قابلين للزيادة في المستقبل القريب، وتقع القاعدة الأمريكية بالقرب من مدينة الحسكة إلى الشمال الشرقي من سوريا، على بعد 70 كيلومترا من الحدود مع تركيا، و50 كيلومترا من الحدود مع العراق.

لم يعد الجدل الأمريكي التركي ذا معنى حول معركة الرقة وقد فهمت تركيا الرسالة حيث استبقت تركيا زيارة وزير الخارجية الأمريكي تيلرسون لأنقرة ببيان صدر عن مجلس الأمن القومي التركي في 29 مارس الماضي يؤكد على أن عملية «درع الفرات» التي بدأت في اب 2016 «تكللت بالنجاح في تأمين الحدود التركية، وعرقلة تهديدات وهجمات تنظيم داعش، وحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي الانفصالي»، لكن رئيس الوزراء التركي بن علي يلديريم ترك باب عودة العمليات التركية العسكرية في سوريا مفتوحاً بالتأكيد أنه «إذا ما بدأت تركيا عملية عسكرية أخرى ضد داعش، أو أي تهديد موجه لأمن البلاد، ستكون عملية جديدة وتحت اسم آخر».

يهدف الإعلان عن نهاية عملية «درع الفرات» إلى فرض مزيد من الضغوط على الجانب الأمريكي حيال اشتراك الكرد في عملية تحرير الرقة وتبعث تركيا برسائل إلى شركائها في حلف الناتو إلى أن دورها في رسم مستقبل سوريا لا يمكن تجاوزه وسوف يخلق ديناميكية جديدة ومعقدة في حال أحجمت تركيا عن تقديم الدعم في كافة العمليات ما بعد الحرب في سوريا لكن الولايات المتحدة التي ثمنت دور تركيا حسمت خياراتها بالاعتماد على قوات سوريا الديمقراطية بمكوناتها الأساسية الكردية.

كان وزير الدفاع الأمريكي، جيمس ماتيس قد أعلن أن «القوات العسكرية الأمريكية ستبقى في العراق لفترة أطول لتقديم الدعم والإسناد للجيش العراقي، كما أن المعركة ضد داعش ستكون طويلة» وأضاف «نخطط لمعركة الرقة والخطة قيد الإعداد» الأمر الذي يشير إلى أن خريطة المنطقة قد تبدلت وأن التواجد الأمريكي يعمل على خلق فضاءات جيوسياسية جديد وكان مدير الاستخبارات الأمريكية السابق جون برينان قد صرح بأنّ «الشرق الأوسط الذي نعرفه، انتهى إلى غير رجعة» وأنّ دولا مثل سوريا والعراق «لن تستعيد أبداً حدودها السابقة».

رغم تكشف الخطط الأمريكية حول معركة الرقة بالاعتماد على المكون الكردي تمهيدا لإقامة كيان كردي شبه مستقل إلا أن إشكاليات الخطة الأمريكية نابعة من تعقيدات الوضع الميداني فالقوى المحلية المرشحة للانخراط في حرب داعش متناقضة حد الصدام في تحديد أولوياتها ومصالحها فحالة الاحباط تتزايد بين أمريكا وتركيا حيث يدعم كل منهما مجموعات مختلفة تنوب عنه في الهجوم على الرقة ويبدو أن التوتر بين الطرفين أعمق من مجرد خلاف حول سوريا، ويتفاقم مع اختفاء الآمل في أنقرة من أن خلافة دونالد ترامب لأوباما ستجلب معها نظرة جديدة تقود إلى تحسن جذري في العلاقات الثنائية.

تشير المعطيات الميدانية على الأرض إلى أن «التحالف الدولي» بقيادة أمريكا يمضي قدماً في دعم عمليات «قوات سوريا الديموقراطية» دون غيرها لخوض معركة الرقة غير أن أنقرة لا تزال تصر على مشاركتها عبر فصائل «درع الفرات» لتخوفها من إقامة كيان كردي وقبيل زيارة تيلرسون أعرب جاويش أوغلو عن أمل بلاده في تطبيق استراتيجيها في خلال عملية «درع الفرات» في معركة الرقة وشدد على أن شن «التحالف الدولي» لعملية عسكرية بالتعاون مع «وحدات الحماية الشعب» الكردية، سيكون «أمراً غير مريح» وانتقد سياسة واشنطن وموسكو في دعم «الوحدات الكردية» معتبراً أنها سياسات «قصيرة الأجل».

في محاولة لتهدئة مخاوف الأتراك حول مشاركة الأكراد في معركة الرقة قال قائد قوات «التحالف الدولي» ستيفن تاونسند إنه لا يتوقع أن يتمكن «حزب الاتحاد الديموقراطي» من بناء «دولة اتحادية كردية» في شمال سوريا، وأوضح أن مهمة «التحالف» ليست «إقامة دولة اتحادية كردية، ونحن لا نحرر الرقة من أجل أي حزب، لكن ذلك لا يقنع أنقرة التي تدرك أن ثمة كيانا كرديا قيد التشكل ولا يمكن أن يقدم الأكراد أثمانا باهظة دون مقابل.

خلاصة القول أن الولايات الأمريكية في عهد ترمب باتت أكثر وضوحا فمعركة الرقة الأكثر تعقيدا من الموصل لن تشارك فيها تركيا وسوف يعتمد التحالف بصورة رئيسية على قوات سوريا الديمقراطية على الأرض وبعد الانتهاء من العملية وخلق دينامية جديدة وواقع جديد سوف يطلب من تركيا المساهمة في عمليات ما بعد الرقة عسكريا وسياسيا الأمر الذي يجعل من العمل ما بعد الرقة أكثر تعقيدا حين تصبح خطوط الصراع بين القوى الإقليمية والدولية على تماس مباشر.