مضحك مبكٍ المشهد الليبي. فقد دخل الأسبوع الماضي ثوار ليبيا في متاهة التقرب من إسرائيل عبر مزاعم كاتب فرنسي بأنه نقل رسالة من الثوار إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. يومها فتحت عقلية المؤامرة على كل الثورات العربية مخازن سهامها، وأطلقت النيران شمالا وجنوبا، وتساءلت بخبث: ألم نقل لكم إنها مؤامرة إسرائيلية-أميركية على المنطقة؟ وفي تعليق لزميل صحافي كاهن في فنون عقلية المؤامرة، أعاد فيها أبياتا من شعر مظفر النواب: بوصلة لا تشير إلى القدس مشبوهة.. حتى يؤكد أن مصير الثورة الليبية في أحضان تل أبيب.
هذا على صعيد الثورة، أما ما تبقى من الزعيم الليبي معمر القذافي فقد دعا أفراد شعبه لمداهمة ما أسماه "العصابات المسلحة" في شرق ليبيا وغربها، وتجريدها من سلاحها من دون قتال عن طريق "زحوفات مليونية" على حد قوله. وتحدى القذافي قوات "الناتو" قائلاً: "لن يمكنكم الوصول بطائراتكم لهذه الزحوفات المليونية.. نحن أقوى من طائراتكم وصواريخكم، وهذه ليست أول مرة تغزونا وتنهزمون وتندمون".
طبعا، ولأنه لا ينسى لغة الخطابات التي استمرأها أكثر من أربعين عاما وهو يمطرنا بها، فقد أعاد الحياة لمصطلحه الشهير: "طز في أميركا" عندما خاطب قوات التحالف قائلاً: "ماذا تريدون؟ هل نحن اعتدينا عليكم؟ لماذا هذا القصف المتوالي؟ طز! لن تخضعونا أبداً ونرحّب بالموت.. والاستشهاد أفضل مليون مرة".
ولم ينس أيضا أن يشير إلى نهايته، فقال: "لا تهمنا الحياة ولا يهمنا النصر ولا يهمنا الموت، ما نهتم به هو واجبنا الذي سنقوم به نحو التاريخ والماضي والمستقبل سواء متنا أو استشهدنا أو انتحرنا أو انتصرنا". ويبدو أن فكرة الانتحار هي الأقرب لما تبقى من عرش انهار أمام شلالات دم شعبه.
وفي الوقت الذي كان القذافي يخطب عبر رسالة صوتية، نشطت قنوات حوار سرية وغير معلنة في الخفاء وبعيدا عن أعين وسائل الإعلام للتوصل إلى حل سياسي وسلمي للأزمة الليبية. فقد نشطت من طرفه عبر ما تبقى من مسؤولين حوله، وذلك رغم التشدد الذي يبديه القذافي وكبار مساعديه عبر وسائل الإعلام العالمية والرسمية، حيث يسعى كل من أبو زيد عمر دوردة رئيس جهاز المخابرات الليبية، والبغدادي المحمودي رئيس الحكومة الليبية، وشكري غانم رئيس المؤسسة الوطنية الليبية للنفط، إلى جانب عبدالعاطي العبيدي وزير الخارجية الليبي، للتوصل إلى حل يؤدي إلى وقف إطلاق النار وإيقاف "الناتو" لقصفه الصاروخي والجوي على القوات العسكرية والكتائب الأمنية الموالية للقذافي.
وأجرى العبيدي خلال زيارته الأخيرة إلى تونس محادثات مع مسؤولين من الحكومتين البريطانية والفرنسية لاستكشاف إمكانية إبرام اتفاق لخروج القذافي ونظام حكمه. وما تزال المفاوضات في مراحلها الأولى، ولم تسفر بعد عن بلورة أي صيغة، حيث يظهر أن القذافي معني عبر مبعوثيه وكبار مسؤولي نظام حكمه بالبحث عن خروج مشرف من السلطة يضمن عدم ملاحقته هو وأي من أفراد أسرته وكبار مساعديه، إلى جانب تعهد المجتمع الدولي بعدم السعي إلى اعتقاله لاحقا بأي شكل أو تحت أي ذريعة، وبخاصة بعد أن دخلت الصين أيضا على خط البحث عن مخرج لأزمة العقيد الذي يجد تفاوتا في وجهات النظر داخل عائلته ودائرة المقربين منه، فهناك من يدعوه إلى استكمال المعركة حتى آخر طلقة وآخر نفس، وهناك من يقول إنه حان الوقت للرحيل.