الفن يقود ولا يُقاد ويسمو ولا يداس عليه

معظمنا في بلاد المسلمين: العرب وغير العرب، ليس منتجاً لأي فن، وإنما مجرد مستهلكين قلّة له، أو لشكلٍ منه، فبعضنا قد يحب الموسيقى، والموسيقى الفلانية بالذات، وبعض آخر منا قد يحب الرسم، والرسم الفلاني بالذات، وبعض ثالث قد يحب المسرح، والمسرح الفلاني بالذات، وهكذا.
إن الفنون بعامة هي البنية الفوقية أو العليا من الثقافة أو الحضارة في المجتمع، بمعنى ان الفنون هي أعلى مراحل التقدم الثقافي أو الحضاري فيه. أي أنه عندما يزدهر المجتمع أو يُزْهر فإن الفنون تكون هي الثمار أو القطوف. فبها وبناءً عليها يقاس مدى تقدمه أو انحطاطه وليس بالبنية التحتية المادية فقط فيه. فإذا كانت الفنون غائبة أو متردية أو محتقرة دلّ ذلك على انحطاطه. أما إذا كان الأمر بالعكس فأنه يكون متحضراً.
كم من دولة عربية غنية تبدو متقدمة بما لديها من بنية تحتية، ولكنها فقيرة ثقافياً أو حضارياً لغياب الفنون الجميلة منها. وكما يبدو تتقهقر الفنون الجميلة في بلاد المسلمين "بالصحوة" الدينية وتتقدم بغيابها لأنها – إجمالاً – محرمة، وإلا ما تم فصل ممثلة من عضوية ما يسمى بنقابة الفنانين على تناص، ورحب المجتمع بذلك.
لعل مثل كثير من العاملين في الفن، وبخاصة في التمثيل في بلاد المسلمين، مثل كثير من العاملين في التعليم، فقد ساقتهم الظروف إلى العمل بالتمثيل مثلما ساقت غيرهم إلى العمل بالتعليم، مع أن أولئك ليسوا ممثلين، وهؤلاء ليسوا معلمين، أي لم يصبحوا: إحساساً ودوراً ورؤيةً ورسالة ممثلين أو معلمين، وإنما مجرد مشتغلين في الفن أو التعليم. كما لا يوجد في الحالتين إعداد مسبق ملزِم ومنفتح لهم، ولا معايير صارمة للداخلين منهم في المهنة، ما يجعل كثيراً منهم مجرد متطفلين عليها. وبذلك، أو لذلك، لا يكون التعليم أو الفن قائداً بل تابعاً أو حتى مجرد تابع.
يقول بن جونسون الروائي والشاعر والممثل الإنجليزي (1572 - 1637): "إن الجهل هو عدو الفنون". ويقول عالم الرياضيات والفيلسوف الانجليزي ألفرد وايت هيد (1861 - 1947): "إنه يزدهر بالمغامرة".
أما المفكر والمؤلف والمحرر والناقد الأميركي لنكولن ستيفن (1866 - 1936) فيقول: "إن الفن أشبه بحدّ (Border) من الزهور الذي يحيط بالحضارة من جميع الجهات" ، فهل يدرك الممثلون والفنانون - بوجه عام – في بلاد المسلمين ذلك؟ هل يحتلهم الفن: إحساساً ودوراً ورؤيةً ورسالة فلا يقبلون – مثلاً –الأدوار التي تحط من قيمة حرية التعبير، أو من حقوق المرأة، ومن حقوق الإنسان، أم أنهم يقبلون كل ما يطلب منهم أو يملى عليهم؟
حسب الرسام الفرنسي بول جوجن وهو أحد المؤسسين المؤثرين في الفن الحديث (1848 - 1903): "إن الفن إما ثوري أو انتحالي"، "ولا يوجد كلمة "يجب" في قاموسه" لأنه حر كما يقول الرسام الروسي فسلي كاندسكي (1866 - 1914).
أما ليو شتاينبرج الناقد الفني والمؤرخ الأميركي (1920 - 2011) فيقول: "إذا أزعجك عمل فني ما أو أسلوب جديد ما فإن من المحتمل أن يكون جيداً. أما إذا كرهته فاعلم أنه قد يكون عظيماً".
والفن عند الرسام والنحات الاسباني الكبير بابلو بيكاسو (1881 - 1973): "هو الكذبة التي تمكنك من إدراك الحقيقة". والفن في جوهره عند الفيلسوف والمؤلف الأميركي أركِ فرومْ (1900 - 1980) صراع مع المجتمع الذي يوجد فيه. إنه تعبير عن الحقيقة وعن الوجود سواءً أخدم هذا التعبير أهداف المجتمع أو عرقلها. إن الفن العظيم ثوري لأنه يناقش حقيقة الإنسان وأشكال المجتمع الإنساني الانتقالية.
ومن جهتي وكان لدي ما أقوله في الفن، فإنني أدعي أنه حيث تغيب الفنون تغيب العقول وتنفطر القلوب، لأن الفنون تعني الاستمتاع والأمان والرقي والصحة النفسية.