توحيد خطبة الجمعة قرار يحتاج إلى مراجعة

من حقّ كلّ وزير أو مسؤول أن يجتهد، بل من الواجب عليه أن يجتهد، شريطة أن يستجمع اجتهاده مقومات النّجاح، من مشروعيّة الهدف، وسلامة القصد، وفهم الواقع، واستحضار المآلات، وبغير ذلك لا يعدو الأمر أن يكون قفزة في الهواء غير مأمونة العواقب. وإذا كان كلّ هذا مطلوبا في الأمور الحياتية فهو أشدّ إلزاما فيما يتعلق بالعبادات. ولمّا كان يوم الجمعة المؤتمر الأسبوعي للمسلمين، وعماده خطبة الجمعة، التي تكاد تكون الحالة الوحيدة التي ينفرد فيها الإمام بالحديث، والمصلون كأن على رؤوسهم الطير، استماعا وإنصاتا فإنّ من حقّ المسلمين أن يستمعوا إلى خطبة توافرت لها كلّ عوامل النّجاح، ثقة بالخطيب: علما، وسلوكا، وفهما لأحوال النّاس وأولياتهم، وتحريّا للحكمة والموعظة الحسنة، وهذه مسؤولية وزارة الأوقاف، تتحملها أمام الله عزّ وجلّ، ثمّ أمام ممثّلي الشعب باعتبارهم سلطة رقابية على أداء السّلطة التّنفيذيّة. هذه المسؤوليّة ترتّب على الوزارة تأمين العدد الكافي والمؤهّل من الأئمة والوعّاظ والخطباء، ومواصلة تأهيلهم في ضوء المستجدّات، ومراقبة أدائهم وفقا لقواعد الأهليّة والمصلحة العامة، بعقد النّدوات والمحاضرات وورش العمل، وصولا الى المستوى اللائق بأشخاص تبوأوا هذه المسؤولية، فالتأهيل والتّطوير وفقا لذلك يغدو حقا وواجبا ومسؤولية دينية ووطنية، أمّا أن تعمد الوزارة الى توحيد خطبة الجمعة، وتفريغ إمام في كلّ مديرية لمراقبة تطبيق هذا القرار، وإنزال العقوبات بمن يخرج على هذا القرار، فلا أخاله يصبّ في تحقيق أهداف التّطوير والترشيد، وإنما هو اعتداء على حقّ الخطيب وجمهور المصلين، فالخطيب من حقّه بل من واجبه أيضا أن يبدع في اختيار موضوع الخطبة، في ضوء فهم الواقع، ممثلا بأوضاع النّاس والمستجدّات، وهذا من شأنه أن يعزّز الثّقة بالخطيب، والاهتمام بالخطبة، وتمثّل القيم والتوجيهات التي تضمنتها الخطبة.

بينما يصادر توحيد الخطبة حقّ المصلين في الاستماع إلى خطبة تصدر عن تقدير موقف لحاجاتهم وميولهم واهتماماتهم، ولا أدلّ على ذلك من أن الكثيرين من المصلين يتجاوزون المساجد القريبة من أماكن سكناهم إلى مسجد يثقون بعلم خطيبه وفهمه وقدرته على معالجة مشكلاتهم. إن اجتهاد الوزارة بتوحيد الخطبة فيما أرى جانب الصّواب، وألحق بالمسجد أفدح الضرر، حيث بلغني أن بعض الخطباء يفكّرون باعتزال الخطابة، وأعاد إلى الأذهان عهد السّتار الحديدي الذي كرّسه الاتّحاد السوفيتي، وفشل فيه فشلا ذريعا.
بقي أن أقول: تستطيع الوزارة إن كانت تريد إيصال خطبة موحّدة أن تبثّ مساء يوم الجمعة -ولا أقول أثناء صلاة الجمعة- خطبة تراها متميزة، ليستفيد منها النّاس حسب اهتمامهم، والوقت المتاح لهم، ورحم الله الإمام مالك الذي كان ردّه على الخليفة أبي جعفر المنصور حين أراد أن يجمع النّاس على الموطأ (لقد تفرق أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومع كل منهم علم فإن جمعتهم على كتاب واحد تكون فتنة).