سياسات الدين والخطاب الجديد وإعادة التوجيه

لا علاقة في الأصل للسياسات الدينية بالدين، بل هي تعاُم ٌل مع المعطيات الدينية الرمزية واهتمامات الجمهور بما يؤدي إلى التسكين أو الإثارة أو إعادة التوجيه. وكن ُت في مطلع عام 2014 قد ألقي ُت في مركز الملك فيصل بالرياض محاضرة عن «سياسات الدين في أزمنة التغيير» درس ُت في مطلعها سياسات السلطات تجاه الدين ليس من مواقع العداء أو الجفاء بل من مواقع البشاشة الظاهرة بقصد الاستئلاف والاستخدام أو إعادة التوجيه. واستعر ْض ُت لأغراض البحث كتابين؛ كتاب «السياسات الدينية والدول العلمانية: مصر والهند والولايات المتحدة» لسكوت هيبارد (2007) (Hibbard Scott ،(وكتاب نبيل عبد الفتاح: «سياسات الأديان، الصراعات وضرورات الإصلاح» (2003 .(نبيل عبد الفتاح يدرس سياسة ثلاث جهات تجاه الدين في مصر التسعينات على وجه الخصوص: السلطات والأحزاب السياسية ­ الدينية، والمؤسسات الدينية الإسلامية والمسيحية. وهو يلاحظ أ ّن الأحزاب الدينية ولأغرا ٍض سياسية كانت تحاول التقرب إلى السلطات بكل سبيل من طريق التأكيد على المواطنة والمساواة والحريات والتزام السلم الأهلي والوطني، بينما كانت السلطة تدأب على التشكيك في نوايا الصحويين وتصرفاتهم وتتهمهم بالخداع، أما في الحقيقة فإنها كانت قلقة لزيادة شعبيتهم، ولذلك فقد كانت تشن حملا ٍت عليهم بين حين وآَخر. أما الدين فما كانت للسلطات سياسا ٌت بشأنه، وإنما كانت تقف وراء مؤسسة الأزهر بشك ٍل عام؛ وإ ْن على شيء من التوتر بين الطرفين باعتبار أن السلطات أكثر تقدمية من المؤسسة الدينية! ويذهب سكوت هيبارد إلى أ ّن الدول ذات الأحزاب السياسية الديمقراطية الكبيرة (مثل الولايات المتحدة والهند) ما استطاعت بعد الستينات من القرن الماضي الحفاظ على حيادية نزيهة تجاه الأديان في بلدانها، بل مالت بالتدريج إلى استخدام الدين لزيادة شعبيتها في الانتخابات بإعطاء الجماعات الدينية المتشددة الصاعدة ميزات وتنازلات في شتى المجالات بداعي محاباة الدين أو نصرته. أما في مصر فيذهب هيبارد إلى أ ّن الدولة حابت المتدينين في ساسية (مثل تعديل الدستور، والبرامج التلفزيونية، والسماح باستخدام القضاء في النيل من الحريات ُ أمور أ الدينية) من أجل صرفهم عن الأحزاب الدينية، وإثبات تقديم الدولة للإسلام. إ ّن ك َّل هذه التأملات بشأن «سياسة الدين» ومعناها وغاياتها، قصد ُت بها التقديم لحدي ٍث عن مؤتمر الأزهر ، وُمداخلاً، وحضره ً بمصر «المواطنة والحريات.. التنوع والتكامل»؛ والذي شارك فيه ُزهاء الستين محاضرا المئا ُت من المسلمين والمسيحيين العرب من مصر والخارج. وصدر بنهايته «إعلان الأزهر للمواطنة والعيش المشترك». هذه المرة؛ فإ ّن المؤسسات الدينية هي التي تتقدم لممارسة «سياسات الدين». ولو تأملنا الموضوعات ز على لوجدناها ضعيفة العلاقة بموضوعات الدعوة الدينية التقليدية. فالدعوة الدينية التقليدية إنما تركّ المسائل الأخلاقية والشعائرية، أما إعلا ُن الأزهر فيُعنى بموضوعات السياسات العامة والوطنية، لكنه لا ، لأنه يلتزم بالإجماعات الوطنية والعالمية. فالسياسات الدينية للمؤسسات الدينية يمارس عملاً سياسياً مور: الملاءمة، والتسكين، وإعادة ُ الإسلامية في هذه الحقبة الصعبة عليها وعلى الدين ذاته تتعلق بثلاثة أ التوجيه. وقد بدأت بتقصد التلاؤم مع ظروف ومقتضيات المتغيرات منذ فترة طويلة، لكنها ما استطاعت بلوغ التوازن المطلوب في كثيٍر من الأحيان لأنه كان عليها التعرض للمسائل الدينية بمناهج قراءة جديدة تغّير من رؤية العالم وفقه الدين في علائقه بفقه العيش. ولذا فإ ّن المؤسسات تقدمت في «فقه الفروع» لمعالجة المشكلات العاجلة والملّحة، وما تقدمت بالدرجة نفسها في «فقه الأصول». ونجحت أكثر في مسائل التسكين أو طمأنة الجمهور أو ما اعتبرت أنه رغبات الجمهور المتدين. بيد أ ّن هذا النجاح كان متعلقاً بالاحتجاج على العصرنة وعلى الفلتان الاجتماعي والثقافي، وضرورة التزام أحكام الدين. وفي هذه الأمور ينجح شيوخ ودعاة الفضائيات أكثر، والأحزاب الصحوية التي تمارس السياسة باسم الدين. وح ْسب، وليس جمع إ ّن ما فعله الأزهر في مؤتمره الأخير، ليس جمع المسلمين والمسيحيين العرب معاً المقامات الدينية التقليدية إلى أهل المجتمع المدني فقط؛ بل والاهتمام بصناعة خطاب ديني جديد في سياق توجيٍه جدي ٍد لسياسات الدين. فقد دأبت المؤسسات الدينية في مصر والمملكة العربية السعودية والمغرب منذ عام 2012 على عقد مؤتمرات وورش عمل وندوات ضد التطرف والإرهاب. بل إنها عملت إضافة لذلك على عمليات «تحويل» وتحريف المفاهيم الدينية من جانب أحزاب الإسلام السياسي و«الجماعات الجهادية»، ومن تلك المفاهيم: الدين والشريعة والجهاد، والدولة، وعلائق الدين بالدولة، والدين بالمجتمع. ويدخل ذلك كله بالطبع ضمن سياسات الدين، لأنه يتضمن توجها ٍت جديدة في الخطاب تتجاوُز التعبديات والرمزيات والأخلاقيات إلى بعض الأصول. ومن ذلك إعادة النظر في مناهج التعليم الديني، وإعادة تدريب الأئمة والخطباء والمدّرسين. بيد أ ّن ك َّل هذه الشؤون تدخل إذا ص َّح التعبير في الردعيات، أو كما يسميها علماء الأصول: درء المفاسد. أما مقاصد الشريعة فتتضمن ركنين: درء المفاسد وجلب المصالح. بمعنى أنها تقول للمسلمين والمسيحيين وسائر المواطنين إ ّن المقصود من وراء سلامة الدين وتسكينه واعتدال مقولاته، ليس « َصون الدين على أصوله المستقرة ومقاصد الجامعة» وحسب، كما يقول الماوردي؛ بل إ ّن خطاب المواطنة والتعدد والحريات واستنقاذ الدولة الوطنية التي تحترم ممارسات المواطنة والحريات الأساسية؛ كل ذلك فيه رعاية للمصالح الضرورية للمواطنين، سواء أكانوا مسلمين أم خرى»، كما يقول إعلان الأزهر. ُ مسيحيين أم من «فئا ٍت أ (صلى الله عليه وسلم) أقام دولة المواطنة بالمدينة المنورة عندما اعتبر ً بدأ الإعلان بأ ّن النبي محمدا المشاركين في عهد المدينة أو كتابها أو دستورها من مسلمين ومؤمنين ويهود «أمة واحدة من دون الناس»، للمسلمين دينهم، ولليهود دينهم. ولذا فإ ّن مقولة الدولة المدنية ليست مستوردة، بل هي أصيلة في الإسلام. ويترتب على ذلك أنه لا داعي لمقولات الأقليات وحقوقها، لأ ّن حقوق المواطنين المتساوية أعلى درجة منها، ولى بحفظ المصالح والحريات الدينية والاجتماعية والسياسية. في حين أ ّن مقولة الأقليات تفرق بين َ وأ المواطنين، وتقدم اعتبارات الولاء لمشاريع خارجية. ها. فهي المولّجة والمكلفة من أما الركن الثالث لمواطنة الدولة المدنية الدستورية، فهو الدولة الوطنية ذاتُ جانب المواطنين بحفظ حيواتهم وممتلكاتهم وحرياتهم وحقوقهم. ومن الطبيعي بعد هذا التقرير لمهام الدولة الوطنية، أن يقول الإعلان إ ّن قوة الدول الوطنية فيه إقداٌر لها على القيام بمهاّمها في صون حقوق خرى داخلية أو خارجية. ُ المواطنين وحرياتهم، وأ ّن هذا الحّق حصري لا يجوز أن تشاركها فيه أي جهة أ إ ّن الخطاب الذي تضمنه «إعلان الأزهر للمواطنة والعيش المشترك»، ومن خلال إعادة التوجيه والتسدي