بل سماحة روح!


يعتصم العربي بعزته وابائه, ولكنه لا ينغلق على نفسه دون غيره من ابناء الامم, ولا يرى بحكم ما كرّمه الله به من الاسلام انه ممتع في اصل جبلته بفضل على أحد من الخلق, أو أن أحداً غيره ممتع بمثل هذا الفضل ابتداء, إذ الميزان في التفاضل هو «التقوى» التي هي جماع محاسن الاخلاق.


ثمة حكاية بالغة الدلالة على ما نقول, وإن كان فهمها بعض الخلق على غير ما تنبئ به من طبيعة العربي الذي دفع الاسلام بمكارم أخلاقه الى قصاراه من التحقق في ارض الواقع, فلم تبق نظريات في الكتب أو افتراضات ذهنية.

ولقد ذهب بعضهم في سوء فهمه للمعنى العميق في هذه الحكاية مذهب من يريد أن ينتقص من العرب, وغفل عما تؤكده من حسن وزنهم بالقسط للاشياء, وارتفاعهم عن العصبية الجاهلية التي تسوّل لاصحابها انهم فوق غيرهم من الاعراق, كما هو الامر في النزعة الصهيونية أو في المركزية الاوروبية أو ما شابه ذلك من نحائز الغرور ومكامن الشرور.

تقول الحكاية إن ابن شهاب الزهري قدم على عبدالملك بن مروان فقال له: من أين قدمت يا زهري.

قال: من مكة.

قال: فمن خلّفت يسودها؟

قال: عطاء بن ابي رباح.

قال: أفمن العرب هو أم من الموالي؟

قال: من الموالي.

قال: فبم سادهم؟

قال: بالديانة.

قال: إن اهل الديانة والرواية ينبغي أن يسودوا.

ثم إن عبدالملك أنشأ يسأله عمن يسود اهل اليمن وأهل مصر وأهل الشام وأهل الجزيرة وأهل خراسان وأهل البصرة وأهل الكوفة, فاذا هم جميعاً من الموالي الا ابراهيم النخعي الذي كان يسود اهل البصرة.

والمقصود بالسيادة هنا هي امامة المسلمين في صلواتهم, فهي غير سيادة السلطة والحكم. والاعلام الذين ذكرهم الزهري لعبدالملك هم كبار التابعين الذين لهم قصب السبق في الديانة والرواية على حد قول عبدالملك بن مروان.

امثال: طاووس بن كيسان, ومكحول مولى بني هذيل, وميمون بن مهران والحسن البصري, والضحاك بن مزاحم.

وقد جاء في تفسير قبول العرب في شتى مواطنهم لهذا السؤدد المعنوي لهؤلاء الموالي قول الزهري للخليفة الاموي (والامويون ذوو عصبية عربية فيما يقول المؤرخون): «يا امير المؤمنين انما هو دين, من حفظه ساد, ومن ضيّعه سقط».

لقد كان في العرب كفايات في «الديانة والرواية» فهم مادة الاسلام الذي تنزّل كتابه بلسان عربي مبين, وهم قوم النبي الذي كان الاسلام شرفاً له عليه صلوات الله وسلامه ولهم «وإنه لذكر لك ولقومك». ولكنهم تمثلوا تعاليم دينهم الحنيف وسماحة ما يدعو اليه من البر والقسط واقامة الوزن في تقييم الرجال, فكان للمتقين من الموالي هذا الحضور الكريم بين ظهرانيهم, يشهد بذلك التاريخ وتؤكده الوقائع, ما هو بدعوى عريضة عن المساواة والاخاء كما لا يزال الاوروبيون منذ الثورة الفرنسية يصدعون به الرؤوس ويصكّون الاسماع دون شاهد صدق معتبر, وما هو بنظرية يخدعون بها الامم عن حقيقة ما يرومون من نهب خيراتها واذلال شعوبها, بل سماحة روحية, وتمثّل أمثل لوحدة الخلق ووحدانية الخالق, وانفتاح محبة انتشر اريجها في الارض وما يزال, ومن يعمى عن ذلك أول أو لا يحقق معناه فيما يقول ويعمل فهو في ضلالة وديجور.

ومن لم يجعل الله له نوراً.. فما له من نور.