حيث يُقدرون أدوار الصحافة..!

يتحدث العالَم كله عن الأزمة الطاحنة التي تواجهها المؤسسات الصحفية ومنظمات الأخبار في كل مكان. وهي أزمة مركبة، سببها انخفاض التوزيع والإعلان والعوائد والمالية، ونتائجها تقليص الكوادر الصحفية في غرف الأخبار، وبالتالي انخفاض نوعية وحجم تغطية المنتج الإخباري.
السبب الأبرز في انخفاض التوزيع والعوائد، هو ازدهار المواقع الإلكترونية ومنصات التواصل الاجتماعي. وعنى ذلك عملياً شيئين: أن المرء يستطيع أن يزور عشرات المواقع الإخبارية من مختلف الأنواع بكبسة زر على حاسوبه أو هاتفه النقال من دون الحاجة إلى شراء صحيفة؛ وأن المعلن سيفضل الوسيلة التي توصل إعلانه إلى أكبر شريحة ممكنة من المستهدفين –المواقع الإلكترونية ووسائل الإعلام الاجتماعية في هذه الحالة.
بالنسبة للصحف، تعني هجرة الإعلان وانخفاض عدد مستهلكيها تقليص كوادر الصحفيين لاختصار المصاريف. ويعني ذلك قطعاً إنتاج مادة أقل، وأضعف محتوىً وأضيق تغطية. وينبغي أن يفاقم ذلك المشكلة أيضاً؛ إذ لن يعود المنتَج بهذه السوية مرضياً لمن تبقّى من المستهلكين، فيتحول جزء آخر منهم إلى الصحافة الإلكترونية. وهو سبب جديد لهروب مزيد من المعلنين، والمزيد من تضاؤل العوائد، فالكوادر، فالنوعية.
في بلداننا، تشعر المؤسسات الصحفية وحدها تقريباً بوطأة الأزمة، لأنها الوحيدة التي لها مصلحة –مادية أو أخلاقية- بالتحسُّر على أدوارها ومآلاتها. لكن الصورة مختلفة تماماً في البلدان الأكثر وعياً بأدوار الصحافة، حيث هناك آخرون من أصحاب المصلحة الذين يهتمّون، بل ويساهمون عملياً في تخفيف أزمة الصحافة الرصينة.
فاجأني مؤخراً محتوى مقال عن الشركات الكبرى صاحبة وسائل التواصل الاجتماعية في الولايات المتحدة، والذي قال إن هذه الشركات –التي خطفت الإعلان وعوائده من المؤسسات الصحفية- تقوم هي نفسها بالتبرع بالأموال لمساعدة الصحف. وتنطلق هذه الشركات، التي ينبغي أن تكون لها مصلحة واضحة في قتل الصحف والاستئثار بالجمهور والإعلان والعوائد، من رؤية أخلاقية وعملية لوظيفة الصحافة: إنتاج الأخبار الموثوقة التي تُبقي الجمهور على اطلاع –خاصة وفوق كل شيء، ما يعرف بـ"الصحافة الاستقصائية" المعنية بكشف الفساد وفضح التجاوزات ومواطن الخلل التي تخلف تداعيات قاتلة على المستويات القومية. لذلك، يهبُّ أصحاب الأعمال والشركات الكبيرة إلى التبرع بمليارات الدولارات للمؤسسات الصحفية الرصينة حتى تبقى على قيد الحياة.
ما مصلحة الأعمال في إدامة الصحافة الرصينة، في حين تخدم الوسائل الأخرى ترويجها الإعلاني بشكل أفضل وأرخص كلفة؟ ربما يدفعها إدراك محقٌّ لحقيقة أن توفير بيئة أكثر أمناً للفساد والمحسوبية والمخالفات، من دون عين الصحافة، هو وصفة أكيدة لتخريب بيئة الأعمال أيضاً، باعتبارها جزءاً متعالقاً من حركة المجتمع ككل. وكما نعلمُ أكثر من غيرنا، بالتجربة المُرة، فإن فساد المسؤولين ومرور المخالفات الكبيرة بلا كشف ولا مساءلة، سيعني حتماً خراب الاقتصاد وهروب الاستثمار ونهب المال من جيوب الناس –بل وخلق بيئات متوترة وخطرة طاردة للأعمال والسياحة وكل شيء.
في المقال المذكور، يشكو الكاتب من ضآلة الدعم الخيري للصحافة، فيقول إن المؤسسات تبرعت للصحافة الاستقصائية بمبلغ 13.4 مليار دولار "فقط" في العامين 2015 و2016. وهو في رأيه مبلغ قليل، لأنه لم يعوِّض خسارات الصحف. ويعاتب الكاتب أيضاً المؤسسات المرتبطة بشركات "فيسبوك" و"غوغل" و"فيرزون" و"أبل"، على تبرعاتها القليلة نسبياً. ولا تخفى المفارقة في هذا من منظورنا نحن، حيث ليس هناك من يتبرعون للصحافة ولا من يحزنون عليها.
أما هناك، فيحث الكاتب هذه الشركات على تأمل حالة رجل أعمال اسمه كريغ نيومارك، صاحب موقع الإعلانات المبوبة الناجح "كريغلست" الذي "خفض عملُه عوائد الإعلانات المبوبة للصحف بشكل كبير". وقد "دافع نيومارك عن "كريغزلست"، لكنه اعترف أيضاً بأن مصير الصحافة، مهما كان السبب، مهم للديمقراطية الأميركية. ولذلك منح الملايين من ثروته الشخصية لتمويل مشاريع الصحافة".
بطبيعة الحال، ليست لدينا مطلقاً هذه الأنواع من العلاقات التكافلية بين الصحافة والأعمال. وليس هناك وعي أخلاقي وعملي رسمي ولا شعبي بأدوار الصحافة المفترضة الحاسمة في ضبط البوصلة الوطنية. وينبغي الاعتراف أيضاً بأن صحافتنا قاصرة، أو ممنوعة –بالعرف والقانون والسياسات- من إنتاج صحافة استقصائية حقيقية تعرِّي الفساد وتُسقط الفاسدين وتفضح مواطن الخلل بحصانة معقولة. ويفقدها ذلك حتماً تعاطف الجمهور ودعم المستفيدين، ويزيد المخاطر فقط على سلطة مصادرة، كان ينبغي أن تساعد في وضع بلدانها على الطريق الصحيحة!