أخطر من الهزيمة العسكرية

أخطر من الهزيمة العسكرية

بلال حسن التل



تعيش أمتنا هذه الأيام, الذكرى الرابعة والأربعين لهزيمة حزيران سنة ألف وتسعمائة وسبعٍ وستين. ورغم فداحة الهزيمة, التي نزلت على الأمة كالصاعقة, مبددة آمالها بزوال إسرائيل, وتحرير الأرض المغتصبة, فبدلاً من ذلك سقطت القدس بكل ما تجسده من قيم دينية وحضارية, بيد العدو الصهيوني, الذي احتل في حرب حزيران مزيداً من الأراضي العربية حتى خارج فلسطين التاريخية. 



     رغم فداحة النتيجة المباشرة لعدوان حزيران 1967م والمتمثل باحتلال إسرائيل لمزيد من الأراضي العربية وفي مقدمتها القدس فإن ذلك لم يشكل الانتصار الحقيقي لإسرائيل, خاصة على الصعيد العسكري حيث نظن أن ما جرى في حزيران كان آخر الانتصارات العسكرية الحاسمة للعدو الصهيوني. ذلك انه بعد الخامس من حزيران 1967. لم تحقق إسرائيل انتصاراً عسكرياً حاسماً واحداً على أمتنا. على العكس من ذلك فإن الكفة العسكرية صارت تسير على غير هوى إسرائيل. فبعد الخامس من حزيران انطلقت الثورة الفلسطينية مدعومة من جماهير الأمة, رافضة الاعتراف بالهزيمة والاستسلام لنتائجها. مما انعكس في لاءات الخرطوم الثلاثة التي تبناها النظام الرسمي العربي: (لا صلح, لا اعتراف, لا مفاوضات).



وعلى الصعيد العسكري أيضاً, وبعد اقل من عام على هزيمة حزيران, وقعت معركة الكرامة التي مني بها الجيش الإسرائيلي, بهزيمة غير مسبوقة في تاريخه العسكري, وهو بعد في نشوة انتصار حزيران. فتمزقت بعد معركة الكرامة أسطورة الجيش الذي لا يقهر. وتعاظم وجود المقاومة الشعبية عبر فصائل الثورة الفلسطينية. وفي هذه الأثناء اندلعت حرب الاستنزاف على الجبهة المصرية. ثم وقعت حرب رمضان عام ألف وتسعمائة وثلاثة وسبعين.



     ومثلما مزقت معركة الكرامة أسطورة الجيش الذي لا يقهر, أنهت حرب رمضان أسطورة خط بارليف. ومنعت إسرائيل من تحقيق حسمٍ عسكري لمصلحتها. وظلت المقاومة تتصاعد في الأمة فدخل عامل جديد وحاسم إلى الميدان العسكري المقاوم وهو الإسلام الذي عاد ليلعب دوره في الصراع حول فلسطين, من خلال المقاومة الإسلامية في لبنان ممثلة بحزب الله, الذي أرغم إسرائيل ولأول مرة في تاريخها على الانسحاب المذل, وغير المشروط, من أراضٍ عربية تحتلها. وصولاً إلى جدع أنف العدو الإسرائيلي في عدوانه على لبنان في تموز 2006. مثلما صار الإسلام عنصراً حاسماً ومكوناً أساسياً من مكونات المقاومة الفلسطينية من خلال حركة الجهاد الإسلامي, وحركة حماس وعملياتهما النوعية. وصولاً إلى الانجاز النوعي بمنع العدو الإسرائيلي من تحقيق أهدافه من العدوان على غزة عام 2009. ليثبت ذلك كله ان المقاومة الشعبية والشعب المسلح هما الطريق لتحرير فلسطين واجتثاثها من الوجود.



إذن فعلى الصعيد العسكري لم يكن انتصار حزيران 1967, انتصاراً حاسماً للعدو الإسرائيلي. لأن إرادة القتال والمقاومة لم تنكسر عند أبناء الأمة, خاصة على مستوى الجماهير. ولعل هذه هي الحقيقة التي انتبه إليها العدو الإسرائيلي وحاضنته الغربية, بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية, فانصبت جهودهما – أعني إسرائيل وحاضنتها – على كسر إرادة القتال والمقاومة لدى الأمة, انطلاقا من السعي لشطب فكرة المقاومة وثقافتها التي صارت هدفا مركزيا للعدو. سعى إلى تحقيقه عبر كل الطرق والوسائل المشروعة, وغير المشروعة. وفي هذا الإطار تم أولاً دفع الرئيس المصري الأسبق أنور السادات إلى رفع شعار كسر الحاجز النفسي مع العدو الإسرائيلي, الذي ذهب تحت غطائه إلى الكنيست الإسرائيلي, لتنطلق بعد ذلك عملية ما سمي بسلام الشجعان, الذي جرّ على مصر ومن خلفها الأمة كلها هذا الهوان. فبسبب هذا السلام الذي صار خياراً استراتيجياً وحيداً للنظام السياسي العربي, فتحت كل أبواب العواصم العربية, أمام العدو الصهيوني, سراً وعلانية. وصارت مكونات النظام السياسي العربي لا تقف عند حدود التباري على خطب ود إسرائيل, بل صارت هذه المكونات تتبارى على التماهي في المخططات الإسرائيلية, حتى ولو كان في ذلك دمار لأجزاء من جغرافيا الأمة, ونظامها السياسي. حدث هذا في العراق, ويحدث الآن في سوريا وليبيا. ففي ظل ثقافة السلام التي انتشرت في صفوف الأمة حققت إسرائيل وحاضنتها الغربية هزيمة أمتنا النفسية والحضارية وهي اشد واخطر من الهزيمة العسكرية التي لحقت بالأمة في حزيران ففي ظل ثقافة السلام صارت الاستعانة بالأجنبي مقبولة. وصار الوجود العسكري مبرراً في بلادنا وصار العداء لإسرائيل يستبدل بعداء بين أبناء الأمة الواحدة. تارة بحجة مذهبية وأخرى حماية للديمقراطية وحق الشعوب بالتعبير عن إرادتها. إلا إذا تعلقت هذه الإرادة بفلسطين وتحريرها والمقاومة وحمايتها. فقد صار الوجود الإسرائيلي مقبولاً ومقاومته إرهاباً. وصار النَيْلْ من سوريا لحساب إسرائيل هدفا. كل ذلك بتمويل وإسناد من النظام الرسمي العربي, تحت مسمى دعم الربيع العربي. الذي صار يزهر بدماء أبنائه في ليبيا أو سوريا أو اليمن لتنام إسرائيل هانئة. بعد أن تكفل بعض العرب ببعضهم الآخر, في أوضح صورة لموات فكرة الأمة ولبروز العصبيات الإقليمية, والجهوية والعرقية والمذهبية. فالهدف النهائي هو أن تصير إسرائيل الكنتون الأكبر في المنطقة. بعد تقسيم المقسم وتجزئة المجزء من بلاد العرب. كما يجري في السودان ويلوح في أفق ليبيا ويجري التحضير له في مصر وغيرها.



إن المتأمل في الواقع العربي, يدرك ان الخطر الحقيقي الذي تواجهه الأمة اليوم, ليس هو الخطر العسكري. فما زال في الأمة من يضع يده على الزناد لمواجهة إسرائيل. لكن الخطر صار في الذهنية التي تعتبر هذا الذي يضع يده على الزناد لمقاومة إسرائيل خارجاً على القانون, يُقَدَم للمحكمة. تماماً مثلما يحدث لكل من يحاول دعم صمود أبناء غزة والضفة الغربية. فقد صارت مقاومة إسرائيل إرهاباً يجب أن يُحارب وان يمثل من يمارسه أمام المحاكم العسكرية. 



إن الانتصار الحقيقي الذي حققته إسرائيل وحاضنتها الغربية, هو ذلك الذي أنجز على صعيد تدمير البنية الفكرية والثقافية للأمة والمبنية على المقاومة ورفض الاحتلال ومن يدعمه, أو من يتعامل معه. وقد كانت البداية عندما نادى أنور السادات بكسر الحاجز النفسي بين أمتنا وإسرائيل لتشرع مسيرة سلام الشجعان أبواب الأمة نوافذها لكل أدوات تخريب منظومتها الفكرية, عبر إنشاء ودعم وتمويل آلاف مراكز الدراسات والجمعيات والصحف والمجلات والفضائيات التي كرست لاستبدال ثقافة المقاومة بثقافة الاستسلام واستبدال فكرة الأمة بفكر الشعوبية. والاعتزاز بالانتماء للعروبة والإسلام بالذوبان في العولمة وثقافة "الجينز" و"الهمبورغر" واستبدال اللسان العربي الفصيح بمفردات (العربتيري) في أبشع تجليات الهزيمة الثقافية والحضارية للأمة التي آن الأوان أن يلتفت عقلاؤها لإنقاذها عبر عملية تربوية فكرية شاملة تعيدها إلى ذاتها أولاً وتخلصها من هزيمتها الحضارية وعندها سيكون درب الانتصار العسكري معبداً أمامها.