أتعلمون أيَّ «فساد» يبعث المطر؟

خمسة وعشرون عاماً، أو تزيد، وذاكرتي تحفظ ذلك الرسم الكاريكاتوري للأستاذ محمد الخنيفر، إذ كانت سلطانة - إحدى شخصيات رسوماته - تشرب كأساً من العصير، وهي تتأمل منظر المياه التي حولت مخرج ١٣ في الطريق الدائري بالرياض إلى بحيرة، ثم قالت من هول ما رأت: «ليت من جاب الفاسدين الذين تسببوا في غرقه جعلهم يشفطون هذه المياه، بهذا المزّاز»، فكرة العقاب مبتكرة، لكنني أشاطر سلطانة في ما ذهبت إليه، فالفساد الذي لا يخجل من تكرار نفسه يجب قمعه بأية طريقة كانت. لم يعد المخرج يغرق، فمنزل الملك عبدالله - رحمه الله - في مخرج ١٢ مجاور له، لكن الرياض ما تزال تئن، وعلى المقيمين خارجها مراعاة فارق الإمكانات التي يفترض أن تتوفر للعاصمة، فلا «يشرهوا» على شوارعهم لو مكّنت المياه من غرف نومهم حتى! إن المسؤول الذي يكذب بتزيين طرق بالورود، وبقية الطرقات يملؤها الجحود والإهمال، إنما يقدم شهادة خذلانه على طبق من ذهب، فهو باحث عن مصلحته فقط، لكن على أكتاف الوطن.

 

 

أمثال هؤلاء هم معاول الهدم التي لا تنفك منابر المساجد تدعو لولي الأمر بأن يجنبهم إياها، وبطمعهم جعلوا صروح النماء التي أنفقت الدولة بلايين الريالات في تشييدها أضحوكة للشامتين، إنهم يحاولون بما أوتوا من نهَم نزع الفرحة في «بشائر الخير» من النفوس، وكأني بهم يغلقون آذانهم عن سماع: «جعلها الله أمطار خير وبركة، وعم بنفعها أرجاء البلاد»، فهي لا تسمن جيوبهم. في كل دول العالم لا يتم افتتاح طريق - على سبيل المثال - إلا بعد استيفائه شروط البنية التحتية؛ من تصريف للمياه، وتمديدات الكهرباء والهاتف والإنترنت، إلا في السعودية، فذلك الطريق محكوم عليه أن يشبه وجه «البلطجي» كما تصوره الأفلام العربية، الذي تملؤه آثار العمليات الجراحية، تُلملم بقاياه! كنت أتابع تداعيات ما حدث خلال اليومين الماضيين، ولفت انتباهي تصريح وزير الشؤون البلدية والقروية للتلفزيون السعودي، إذ ذكر المهندس عبداللطيف آل الشيخ أن أمطار هذه السنة فيضانات، وأنها لا تتكرر إلا خلال فترات طويلة من الزمن، حددها أحد المرافقين له بأربعين سنة! لا أعلم إن كان معاليه أو من كان يقف إلى جانبه لم يطأوا أرض الوطن طوال هذه المدة، ما أعلمه أنه إذا كان غرق الشوارع هو من يحدد «استثنائية» الأمطار من عدمها، فإن جميع أمطارنا وعلى مدار الأعوام السابقة استثنائية وفيضانات، أما بالنسبة إلى شبكات تصريف السيول، التي ذكر معاليه أنها تُصمم بناء على معدل أمطار معين، حتى في مدن العالم «المتقدم»، بحسب الوزير، فإن ذلك ينقضه تماسك البنى التحتية، بما فيها شبكات التصريف في «السكن» الخاص بشركة «أرامكو»، الذي ناهز عمره الستين عاماً، وأيضاً شبكة تصريف المياه في مدينة الجبيل الصناعية.

 

 

يمكن تفهم «ضمادات» الوزير في هذه الحال، فماذا عساه أن يقول؟! لكن الشق أكبر من الرقعة، فالأحياء التي تم إنشاؤها في ممرات السيول، والمدن التي تقبع على طريق الأودية الجارفة، تترقب مع أهالي ومتضرري سيول مدينة جدة عام ٢٠٠٩ حلاً جذرياً، يجيب على السؤال الذي «طنّشه» أمينها الدكتور هاني أبوراس: هل جدة مستعدة لهطول الأمطار؟

 

 

أقول في الختام، إنني حين عزمت على كتابة هذه المقالة، حاول كثيرون تثبيطي والحد من عزيمتي، يقولون: كم من المقالات كُتبت، والبرامج التلفزيونية التي نقلت المعاناة، دون جدوى! لكن يقيني في أن من بيدهم زمام الأمر يجتهدون ويحاولون، على رغم الأعباء التي يتكبدونها جراء فشل المسؤولين المتقاعسين، هو من دعاني إلى ضم صوتي إليهم، مسلطاً الضوء على سوسة الفساد التي ترجو نخر نخلة بلادنا، التي لا يتوقف ثمر عطائها، فلنكافحها جميعاً بسيف الإخلاص لله ثم الوطن.