الخروج من الوهم

 دخلا موسماً من الانتعاش، حيث استفاق الصحو على أعتاب أصبوحة معطرة برائحة الحب، لينسج ملاءة من السحر المنبعث، من توليفة رائعة مع شروق الشمس، في مطلع نهار أرجواني، تسرح فيه نغمات موسيقىة، توقظها أنامل الطبيعة البارعة، ويسمعان زقزقة العصافير المبتهجة للحياة. اختطف من عينيها نظرة، كانت كافية لأن تعيد شريط الذكريات التي زرعت في أرض طيبة، كانا يتبادلان فيها أقاصيص وحكايات إنسانية عن الحب والجمال، بما يجود بهما خيالهما الخصب، حيث ترق العواطف التي تسبح في تلك الأجواء، وترتسم قصائد شعر وأمل في بداية تجربتهما الأدبية. جلسا معاً في صحن ملكي الحسن، تحف بهما الورود والشجيرات المتنوعة، وتتراقص أمام أعينهما أمواج البحر، لقد كسرا رتابة الحديث، والعبارات المنمقة، ورسمية الكراسي، والياقات البيضاء واللقاءات التي تخلو من الروح، أوحتى الحوارات الثقافية والفكرية التي تبدو أحياناً بلا هدف، والتقيا في جو شاعري رومانسي، يسمعها عذوبة كلماته، فيما هي تنظر له بعينيها، توصله من خلالهما رسائل العشق، لكنها تنبهه إلى عدم السرحان، وتؤكد له أنها مجرد تهيؤات، فيما نفسه الظامئة للعواطف، ترى في كل شيء يصدر عنها، إضاءة لشموع جديدة في حياته، وشيئاً من الفرح الإنساني الجميل، الذي أطل بعد انتظار طويل. ترى هل كانت تلك الأيام حقيقية،، أم نوعاً من الرفاهية الخادعة، التي تخفي وراءها الظلم والقسوة والهجران،، فجأة تتلبد الأجواء بالغيوم السوداء،، لم تكن بشارة لنزول المطر، ومجيء الخير للناس،، بقدر ما هي انطفاء لنور المحبة، وتمزيق لحياة مستقرة هادئة. امتلأت الأيام بالخوف والموت والرحيل،، وتوقفت عقارب الزمن العربي، في ذلك الصيف القائظ الذي دخلت فيه الدبابات الغازية أرض الكويت،، إنها تجربة جديدة من المعاناة،، نكبة جديدة،، أصابت حياتهما في العمق، وما زالت مجتمعاتنا تعيش آثارها المدمرة حتى يومنا هذا،، كل ذلك من أجل أن يعبر البعض، عن أحلام فروسية ضائعة، عن تضخم في الذات، وعدم القدرة على وضع الأمور في نصابها الصحيح. يبدأ الناس تباعاً بالخروج من الكويت،، يحملون معهم أطفالهم، وبقايا من تعب السنين،، وتاركين وراءهم ذكرياتهم الحميمة، بيوتهم، وظائفهم، جيرانهم، أصدقاءهم، كل شيء جميل وهادئ، تركوا العشق الذي ظنوه أبدياً،، في نعيمهم وفردوسهم المفقود. وصل قبلها إلى عمان،، انقطعت كل خطوط الاتصال مع الكويت،، لم يسمع في وطنه معزوفة حب واحدة في تلك الفترة القاسية،، كان الجميع منشغلاً في المظاهرات التي ترفع صور صدام، بطل التحدي والمواجهة مع أمريكا،، ومنشغلاً برفع أسعار الأراضي،، كيف لا.. فمصائب قومٍ عند قومٍ فوائدُ،، كان الناس منشغلين بالتشفي ممن كانوا يتعالون عليهم، وهم يقضون إجازاتهم الصيفية، يرتدون الياقات البيضاء، ويدخنون المالبورو، ويركبون سيارات أمريكية، قبل أن تجتاح السيارات اليابانية العالم، كانت الفوضى عارمة، وكأن يداً خارجية كانت تخطط بمهارة وذكاء لإزاحة ذلك المجتمع المتجانس الذي عاش في الكويت، يبني ويعمر، حتى جعل منها واحة إنسانية، وسط رمال صحراوية قاحلة. وفي ليلة كان ينظر فيها للسماء.. سمع من تناديه من بعيد: أنا هنا،، لقد عدت من الكويت،، نظر إليها، فإذا بها تغني له أناشيد الحب والغرام، التي كانت تعبر عنها بنظرات العيون الخجولة،، حين كانا معاً، يقرأ لها الشعر، على شاطئ البحر، ما الذي دفعها للجرأة، والبوح بما في قلبها من مشاعر؟! لم يكن غريباً أن تطلب منه الاختباء في صدره، فلقد كانت مذعورة، خائفة، مصدومة مما حدث،، كان غناؤها شجياً حتى البكاء،، بدأت الدموع تنهمر دون توقف،، أخبرته أن ابن الجيران الذي أحرز المركز الأول في الثانوية العامة ، وبدأ يدرس الطب النووي في جامعة الكويت، تركته ينشج وراءها، لأنه لا يعرف أين سيذهب، إذ ليس معه إلا وثيقة، كونه من غزة، ونحن بجواز سفرنا الأردني نذهب إلى أي مكان في العالم. فيما يرتفع صوت المتظاهرين في شوارع عمان، ويرتفع سعر الأراضي،، هذا الجو الخانق دفع بهما للخروج معاً في سيارته، إلى الجبال البعيدة،، يطلان على فلسطين من جبال السلط،، ويصلان إلى جرش، لعل في رؤية الآثار الرومانية،، أو شراء الرمان من الباعة على الطريق،، ما يريح النفس،، ومرة صوب منتزه عمان القومي،، حيث يجلسان تحت ظلال الأشجار الحرجية، يتنسمان عطر زهور البرية التي تزحف إليها المدينة، لاستيعاب القادمين الجدد،، كانا تائهين،، يوقفان السيارة ليسألا عن المكان الذي يتواجدان فيه،، عن اللامكان،، واللازمان،، ومرة أخرى يفترقان من جديد،، لم يبقيا معاً في الكويت. ولم يستقرا معاً في الوطن القديم الجديد. كل يذهب في طريقه،، بحثاً عن وطن آخر، عن الواقع ،،هروباً من الشعارات وغلاء الأراضي في بلدهما، ومن رومانسية الذكريات الجميلة في الكويت. اكتشفا بعد مرور السنين أن الواقع مرير، وأن الزمن يمنحهما لحظات من الاسنرخاء، ثم يعيد سطوته، فمهما كانت إنجازاتهما جديرة بالإعجاب،، إلا أنهما ما عادا صغيرين كما في الكويت، وحين يشعران بنوع من الحنين إلى الماضي،، يبتسم كل واحد بينه وبين نفسه،، لأن البكاء على الأطلال، من سمات الشعر الجاهلي،، ولا يتناسب مع متطلبات العصر الحديث.