كلام ودراجات هوائية للايجار



يقضي الانسان جل وقته في السنوات المبكرة من حياته في حركة جسمانية دائمة لا تتوقف الا تحت ظروف ملّحة تفرضها المعادلة الفسيولوجية التي تتحكم بجسمه. وأنسب مكان لتفريغ الطاقة البدنية المتصاعدة هي الشارع والحارة. وكثيرون ممن عبروا المحطة الستينية في رحلة العمر اليوم يتذكرون ان ركوب الدراجات الهوائية المستأجرة كان من أمتع وسائل ممارسة الحركة والنشاط دون ان يخطر ببالهم بأنهم كانوا يمارسون رياضة من طراز رفيع.


في المراحل الدراسية الاولى كنا ننتظر بفارغ الصبر ما كان يسمّى بالحصة الرياضية لكي نخرج الى ساحة المدرسة ، اما لنتسابق أو لنقوم ببعض التمارين الجسمانية المنسقة أو لنركض وراء كرة ما تزال مؤهلة للطيران لبضعة أمتار في الهواء عندما تركل ، وذلك لعدم توفر صالة خاصة للرياضة فيها الات أو معدات كما هو الحال في بعض مدارس اليوم.

تقفز ملامح الصورة الجميلة المتوازنة عن عملية استئجار الدراجة الهوائية في ايام الشقاوة البريئة الى الذاكرة اليوم عندما تراقب اقرانك كيف يقضون أوقات فراغهم الطويلة. ففي تلك الايام كان صاحب محل الدراجات الهوائية هو أحد اضلاع المثلث الاقتصادي الاجتماعي الرياضي العفوي الذي كان أولاد الحارة والبيئة المحيطة يشكلان ضلعيه الاخرين. فثلاثتهم كان يحظى بالغنيمة التي ترضيه وتسعده: مؤجر الدراجات الذي كان يزيد أو يخفض بدل الاجرة حسب لون الدراجة ومتانتها ونظافتها ، والصبي الذي كان يفرّغ من مخزون طاقاته الجسمانية ، والبيئة المحيطة لأنها سلمت من انبعاث عوادم المحركات الميكانيكية. اما الاولاد فكانوا قبل التوجه الى صاحب المحل يتفاوضون شفويا فيما بينهم حول مساهمة كل واحد منهم المادية وما يترتب على ذلك من وقت يسمح له بركوب الدراجة. لكن مجريات الواقع كانت تتغير باستمرار. فالولد الاقوى بنية بينهم كان يقضي وقتا أطول على الدراجة دون ان يحاسبه أحد. أما الولد الاصغر سنا وحجما فكان دوما من أكبر الخاسرين!

لكن ماذا يفعل ابناء ذلك الجيل السابق اليوم لتمضية الوقت وخاصة خلال ساعات النهار وقد أوشكت الطاقة المتبقية في ابدانهم على النفاذ ؟ لعلهم وهو تقدير عشوائي غير مبني على دراسة أو بحث علمي ينقسمون الى فئات ثلاث: الفئة الاولى وقد تشكل الاغلبية منهم وهي التي تمارس لعبة الشدة وطاولة الزهر في المقاهي. الفئة الثانية وقد تأتي ايضا في المرتبة الثانية عدديا وهم الذين يمارسون بعض اشكال الرياضة المناسبة كالمشي والسباحة. أما الفئة الثالثة وللاسف والتي تشكل الاقلية فهي التي تقرأ الكتب! ولعل هناك فئة رابعة لا يجب اغفالها من افراد هذا الجيل وهم الذين لا يفارقون شاشة التلفزيون الا لقضاء حاجة ملحة!

اختم بنهاية ، لا اجزم انها ساذجة كما هي نهايات الافلام المصرية القديمة ، انما على الاقل مبشرة بالخير وباعثة على التفاؤل والتأمل تهم الفئة التي تقرأ الكتب. وهي نهاية مبنية على نفس مبدأ الاستئجار الذي خبروه طويلا في مرحلة الشقاوة المبكرة. ففي وسط البلد هناك من اعاد الحياة الى مهنة التأجير او الاعارة المؤقتة المدفوعة الأجر. لكن صاحبها لا يملك أية دراجة هوائية أو ما شابه ، بل لديه اكوام مكدسة من الكتب من جميع الانواع والاحجام والالوان. وبعضها يعلمك ما لم تكن تعلم ، مهما قيل لك انك تعلم. ومقابل دينار واحد تستطيع ، كل اسبوع أو اقل أو أكثر ، ن تبحر في عوالم جديدة وتكتشف اسرارا نادرة بشرط ان تعيد الكتاب خاليا من الشوائب ، بعد ان تفرّغ حمولته في عقلك وتشحن به خيالك وترمم به ذاكرتك التي يوشك الصدأ ان يكمل الانقضاض عليها!