لمن وجه جواد العناني مقالته التي حملت عنوان الاتهام بالفساد
لا يمكن أن أصدق أن كل هذه المطالبات من الحكومة تصب في صالح العملية الإصلاحية أو المسيرة الديمقراطية. هنالك تطاول على القطاع العام، ومن أناس لا أعتقد أن دوافعهم خيرة سواء قصدوا ذلك أم لم يقصدوه.
فالذين يحتجون مطالبين برفع الأجور هم العمال الحاصلون على أعلى معدلات رواتب وأجور مثل عمال الصناعات السمادية، والكهرباء وغيرهم. ولماذا لم يحتجوا على الإدارات والحكومة لما كانت أجورهم أقل، وكانت الأوضاع الاقتصادية أيسر وأسمح؟
والذين فطنوا بعد مئات السنين أن الأرض بجانبهم يجب أن تكون لهم، سكتوا عقوداً من دون أن يطالبوا بها، أو يستثمروها. ولما جاء من يستثمرها طابت في أعينهم، وقاموا مطالبين بها. الأرض ليست من دون مالك، والمالك هو الخزينة، والخزينة تحكمها قوانين وشرائع. وحتى لو افترضنا أن أخطاء قد ارتكبت في تفويضها أو تمليكها أو بيعها، فهل يعالج الخطأ بأخطاء جديدة من النوع الذي يحتج عليه هؤلاء الإخوة؟؟
والذين تمتد أيديهم الى المال العام فساداً أو طول يد، أو ظلماً، أو وهماً بأنه سائب لا أهل له، ما الذي يدفعهم لذلك؟ وتسمَعُ من هؤلاء من يقول لك طالما أن كباراً من الوزراء والمسؤولين يمدون يدهم للمال العام، فلماذا لا أفعل أنا ذلك؟
ومن هنا يأتي فتح باب الاتهام على مصراعيه، والمستفيد الأول من العدالة الشوارعية والإشاعية هم الذين يريدون تبرير الفعل نفسه لأنفسهم.
لو أن فاطمة بنت محمد عليه السلام سرقت لا سمح الله لقطع نبي الله ورسوله يدها. ولكن بالبيّنات، وبالبرهان، والشرع يحدد أصول الاتهام، وكذلك تفعل القوانين الحديثة. والرسول عليه السلام أوصانا أن نبتعد عن الشبهات، وأن نجنب أنفسنا الوقوع في مواقع تجلب علينا الغيبة والإشاعة. وكذلك، فإن القانون لا يحمي المغفل الذي يوقع نفسه بجهله في مواقع الجرم والشبهة. ومن جَبَّ الغيبة عن نفسه أراح واستراح.
ولكن يجب ألا نأكل أموالنا بيننا بالباطل، وألا ندلي بها الى الحكام لكي نجحف الآخرين حقوقهم، ونكلفهم سمعتهم وحياتهم. والشك يجب أن يفسر دائماً في صالح المتهم حتى تثبت إدانته، وهو بريء حتى ذلك الحين. أما نقيق الدجاج، ووتوتة الشبكات الاجتماعية، وجلسات الأرجيلة والشدة، والثرثرة على المقاهي وفي المآتم والأعراس، فهي سلخ لجلود الناس، ونهش في أعراضهم، وأكل في لحم الميت.
إذا كانت للفساد في المجتمع كلفة عالية، فكلفة الاتهام به أعلى لأنها تعطل كل مسؤول عن اتخاذ قرار، وتؤخر تنفيذ المعاملات ودفع المستحقات، وتبطئ الحركة في الأسواق، وتشجع على ارتكاب المعاصي.
لقد تعلمنا في الاقتصاد أن النقود الرديئة (العملة الورقية مثلاً) تطرد النقود الجيدة من السوق (المسكوكات الذهبية والنقدية). والناس مثلاً يتخلصون من الأوراق القديمة، ويحتفظون بالأوراق الجديدة. والعملة التي تتراجع قيمتها لا أحد يريد الاحتفاظ بها، بل يسعى الكل لاستبدالها بعملة أكثر استقراراً.
وبكثرة الإشاعات والاستغابة، فإننا نطرد الأيدي النظيفة من منطقة صنع القرار، ونثبت أقدام الفاسدين. وكلفة هذا الإجراء أعلى بكثير من كلفة الفساد نفسه.
لا تهاون مع المفسدين، ولكن لا تهاون مع المتسرعين بتوزيع تهم الفساد على الأبرياء. والزنا محرم، ولكن إثبات واقعته صعب، أما الذين يتهمون الناس في شرفهم، فمن الأسهل إدانتهم بقذف المحصنات.