مراجعات حول الإسلاميين والقوميين والمسؤولية المشتركة

وإن كان الخلاف فطرياً بين الناس لأنه في أصل تكوينهم حيث قال الله تعالى: (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين). هود 118
لكن الاختلاف إن خرج عن حدّه أصبح وبالاً على المختلفين وهذا الذي وقع فعلاً.
فقد ورث الجيل الحاضر الحصاد المر الذي اشترك في زراعته آباؤه وأجداده نظراً للخلاف القاتل الذي قسم الأمة إلى خطين كبيرين (عدوين) بارزين هما الأبرز في البيئة العربية، ألا وهما الخط الإسلامي (في طليعته الإخوان المسلمون) والخط القومي (وفي طليعته حزب البعث العربي الاشتراكي والقوميون بشكل عام)، وقد توهَّم الطرفان أنّ هذين الخطين لن يلتقيا، وأنّ الجمع بينهما مستحيل، وأنّ التضاد هو الأصل حتى غدوا طائفتين:
- إحداهما تناهض الإسلام بالعروبة دون أن تعلم أو تقصد، وأخرى تناهض العروبة بالإسلام دون أن تعلم أو تقصد، لم يحققا الغاية ولم يحررا الأمة، ولم يصلا للنتيجة والهدف الذي أرادا، ولم تكن نتيجة الصراع صفرية فقط إنما كانت لصالح العدو الصهيوني وحده.
- وليس من الحقيقة في شيء الهروب إلى التفسير السطحي لهذه الحالة، ألا وهو اتهام كل من الخطين للآخر ورميه بالعمالة والتبعية والرجعية والجهل، أو الانحلال، حيث تجد من الفريقين من لا يمكنك أن تشك في صدق نواياهم وإخلاصهم وتضحيتهم، ولكن ليس كل من قصد الخير استوفى مقومات نجاحه، أو أدركه، أو حققّه، أو عمل بمقتضاه.
ولو رجعنا إلى القرآن الكريم، وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وما قاله العلماء المعتبرون، لوجدنا إجابات واضحة عما اختلف عليه الفريقان، ومنه:-
قال تعالى:- «وإنه لذكرٌ لك ولقومك فسوف تسألون». الزخرف 444 (لذكرٌ): بمعنى (يرفع ذكرك وذكر قومك)، وقومك، تنصرف أولاً إلى العرب الذين لم يكن لهم ذكرٌ.
وقوله: «وكذلك أنزلناه قرآناً عربياً وصرفنا فيه من الوعيد». طه 113
وإذا كان رسول البشرية محمد العربي عليه الصلاة والسلام يقول: «إذا ذل العرب ذل الإسلام». أخرجه أبو يعلى وصححه السيوطي في الجامع الصغير.
وقال: «أحِبُّوا العرب وبقاءهم، فإن بقاءهم نورٌ في الإسلام، وإنَّ فناءهم ظلمة في الإسلام».
وقال: يا سلمان لا تبغضني فتفارق دينك، فقلت يا رسول الله كيف أبغضك وبك هدانا الله عز وجل، قال: تبغض العرب فتبغضني. رواه أحمد
وقال: فمن أحب العرب فبحبي أحبهم، ومن أبغض العرب فببغضي أبغضهم. رواه الحاكم في المستدرك
قيل يا رسول الله: أمن العصبية أن يحب الرجل قومه؟ قال: لا ولكن من العصبية أن ينصر الرجل قومه على الظلم. رواه أحمد
موقف الأستاذ حسن البنا (رحمه الله) – مؤسس جماعة الإخوان المسلمين من القومية:
أولاً: أورد السيد رجاء النقاش القراءة التالية لموقف الأستاذ البنا من القومية العربية جاء فيها:
أتوقف هنا لأقول انني في بحثي ودراستي لهذا الموضوع، وأنا من المؤمنين بالقومية العربية والداعين لها والذين لا يرون فيها أي تناقض مع الدين.. أقول إنني في بحثي ودراستي لهذا الموضوع وجدت رأيا صريحا لمؤسس الإخوان المسلمين سنة 1928 وهو الشيخ حسن البنا، وقد لفت نظري ان رأي الشيخ البنا يختلف تماما مع الذين يعارضون العروبة والقومية باسم الاسلام، وهذا دليل على ان حجة المعارضين للقومية باسم الدين هي بحاجة إلى المراجعة، وقد جاء رأي الشيخ البنا في خطابه الذي ألقاه في المؤتمر الدوري الخامس للإخوان.
الذي يقول فيه: ان الإسلام الحنيف نشأ عربيا، ووصل إلى الأمم عن طريق العرب، وجاء كتابه الكريم بلسان عربي مبين، وتوحدت الأمم باسمه على هذا اللسان يوم كان المسلمون مسلمين.
ويقول: قد جاء في الأثر: (إذا ذل العرب ذل الإسلام)، وقد تحقق هذا المعنى حين زال سلطان العرب السياسي، وانتقل الأمر من أيديهم إلى غيرهم من الأعاجم والديلم ومن إليهم، فالعرب هم عصبة الإسلام وحراسه.
ومن هنا كانت وحدة العرب أمراً لا بد منه لإعادة مجد الإسلام وإقامة دولته وإعزاز سلطانه، ومن هنا وجب على كل مسلم ان يعمل لإحياء الوحدة العربية وتأييدها ومناصرتها، وهذا هو موقف الإخوان المسلمين من الوحدة العربية». رجاء النقاش انتهى
ثانياً: يوضح الأستاذ البنا موقفه من القومية أيضاً ويقسمها إلى:-
أ‌- قومية المجد
ويقول الأستاذ حسن البنا:- إن كان الذين يعتزون بمبدأ القومية يقصدون أنَّ الأخلاف يجب أن ينهجوا نهج الأسلاف في مراقي المجد والعظمة ومدارك النبوغ والهمة، وأن تكون لهم بهم في ذلك قدوة حسنة، وأن عظمة الأب مما يعتز به الابن ويجد لها الحماس والأريحية بدافع الصلة والوراثة، فهو مقصد حسن جميل نشجعه ونأخذ به.
وهل عدتنا في إيقاظ همة الحاضرين إلا أن نحدوهم بأمجاد الماضين؟ ولعل الإشارة إلى هذا في قول رسول الله صلى الله علية وسلم: ”الناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا»، فها أنت ترى أن الإسلام لا يمنع من القومية بهذا المعني الفاضل النبيل.
هي العروبة لفظ إن نطقت به فالشرق والضاد والإسلام معناه
ب‌- قومية الأمة
وإذا قصد بالقومية أن عشيرة الرجل وأمته أولى الناس بخيره وبره، وأحقهم بإحسانه وجهاده، فهو حق كذلك، ومن ذا الذي لا يرى أوْلى الناس بجهوده قومه الذين نشأ فيهم ونما بينهم؟ لعمري لرهط المرء خير بقية عليه وإن عالوا به كل مركب
وإذا قصد بالقومية أننا جميعا مبتلَوْن مطالبون بالعمل والجهاد، فعلى كل جماعة أن تحقق الغاية من جهتها حتى نلتقي –إن شاء الله –في ساحة النصر فنعم التقسيم هذا، ومن لنا بمن يحدو الأمم الشرقية، حتى نلتقي جميعا في بحبوحة الحرية والخلاص؟
لكن توظيف العروبة ورفع رايتها لخدمة المصالح الخاصة حزبية أو فردية مرفوض تماماً.
وتوظيف الإسلام ورفع رايته لخدمة المصالح الخاصة حزبية أو فردية مرفوض أيضاً.

 

والذي كان لمصلحة عدوهما المشترك فقط، وذكرنا ما يستفاد من القرآن الكريم وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وأقوال بعض العلماء في هذا الباب وبخاصة الأستاذ حسن البنا رحمه الله ونظرته للقومية بقلمه وليس نقلاً عنه، والحديث عن القوميين والإسلاميين لا يعني أنهما وحدهما الشعب أو الأمة إنما هناك شرائح حزبية وقوى وطنية أخرى معنية بالتفاهم والمراجعة والعمل المشترك، ونضيف في هذا المقال ما يلي:-
دواعي التفاهم والتعاون والتكامل:
أسباب التفاهم ودواعيه كثيرة جداً وأكبر من نقاط الاختلاف الموهومة ومنها:-
11. العروبيون يؤمنون بالوحدة العربية التي تضم قلب العالم الإسلامي، والإسلاميون يؤمنون بالوحدة الإسلامية التي تضم العرب أولاً، ثم الشعوب الاخرى الراغبة بذلك إنْ وجدت، ولم لا يعمل الطرفان سوياً لتحقيق المرحلة الأولى ثم يكمل من شاء بعد ذلك، لوحدةٍ أوسع؟
22. لقد انتفت القطرية من الطرحين الإسلامي والقومي على حد سواء، إلاَّ مرحلياً للضرورة وليس استراتيجياً، وقد اشتركا في الهم العام أو الأعم على مستوى الأمة.
3. وقد اشتركا ديانةً أو قيماً وأخلاقاً عامة، واشتركا في هدف إسعاد مجتمعاتهم.
4.ةوقد اشتركا في قبول التعددية الفكرية والسياسية.
55. وقد ثبت العداء الصهيوني لكلا الخطين فالكل مطلوب، الإسلامي والقومي على حد سواء، فالدولة الديمقراطية المستقلة المنتمية لشعبها وأمتها مرفوضة، وقد صمم العدو على تدميرها سواء، وهل من حاجة للتدليل على هذا ؟ فلم التشاحن والتضاد؟
66. إذا كان العروبيون لا يعترضون على الإسلام عقيدة وأخلاقاً، ولا يتنكرون للإسلام بل ويمارسون الشعائر التعبدية الإسلامية، ويشيرون إلى أنَّ الرسالة الخالدة في شعارهم هي الإسلام، وإذا كان الإسلاميون يتعبدون الله بقراءة الآيات القرآنية التي تمجد العرب عندما تميزوا بالإسلام، وقد نزل الكتاب الخاتم بالعربية (لغة العرب)، وإذا كانت اللغة الحاضنة (العربية) هي لغة القرآن الكريم، فلم التفرق بعد هذا كله؟
قراءة لنتيجة الصراع:
ونتيجة الصراع بين الإسلاميين والقوميين لم تكن صفرية، بل كانت وبالاً على الأمة بأكملها، وقد تجاوزتنا شعوبا ودولا، وحتى التي استقلت بعدنا وتحررت من الاستعمار، إضافة إلى ضياع كثير من الارض العربية وتشريد أهلها في أرجاء الأرض، فلم ينجح من كان يرى المخرج والمنقذ، هو وحدة الأمة العربية أو وحدة الأمة الإسلامية لتحقيق هذه الغاية ولم تتم وحدة على اساس عروبي أو إسلامي أو غيرهما.
ولم يستطع أحدهما إلغاء الآخر بقوة السلاح أو قوة المنطق والأيديولوجيا التي مورست خلال عقود؟
• بعيداً عن الاختلاف على التفصيلات وعمن يتحمل المسؤولية أكثر من الآخر عن هذا الافتراق بل العداء الشديد الذي ربما فاق مستوى أعداء الأمة الحقيقيين، وقد استنزف الطاقات، وكانت النتيجة مُرّة جداً، ومحصلتها ضياع العرب والعروبة ولم ينتصر دعاة الإسلام، وضاعت قضية الأمة المركزية (فلسطين)، وساد الحكم الدكتاتوري الفردي حفاظاً على الذات من الأعداء الحقيقيين والموهومين، وعاشت الشعوب العربية في ذيل القافلة الإنسانية حتى اليوم.
• وتدخلت الأيدي الخارجية الأجنبية بشكل مباشر وغير مباشر، واتخذت وسائل متقدمة وذكية وخفية، لإبقاء الخلاف مشتعلاً حتى بين أبناء الاتجاه الواحد سواء كان قومياً عروبياً أو إسلامياً واعتمدوا منهج فرق تسد ونجحوا فيه.
• يظهر أن الجميع دون استثناء وقع في هذا الشَّرك القاتل الذي لم يستفد منه شعب ولا وطن ولا حزب ولا جماعة ولا دولة ولا أمة ولا عدالة ولا حرية، إنما كان المستفيد الوحيد هو العدو الصهيوني أولاً ومن يقف وراءه.
• ويمكن أن تقول إن القوميين العروبيين والإخوان المسلمين تنازعوا واقتتلوا بالوكالة دون وعي منهما لصالح طرف آخر عدو للأمة يهدد حاضرها ومستقبلها ويلغي وجودها حية قوية مستقرة.
• كما يمكنني القول إنه لم تتم مراجعات ذاتية في كلا الخطَّين، ولم تجر حوارات هادفة بين المنهجين، إنما كان الحوار بالسجن والمطاردة والاغتيال والقتل، والتشكيك حتى اليوم فيمن يطرح هذه الأفكار.
• لقد انطلى على الفريقين الإسلامي والقومي في ظل الاستسلام للانطباعات والضجيج والعواطف والاتهام الدائم والتسرع والغفلة واستدعاء الخلافات التاريخية، وبسبب النهوض المتثاقل لها الذي جعلهما بين النوم واليقظة، أنه لا يمكن الجمع بين الإسلامي والقومي، بل إنّ كلاً منهما عدو للآخر، ولا يمكن قيام أحدهما إلا بإلغاء الآخر، بل لا يمكن النهوض إلا بإلغاء الآخر وشطبه، هذه حالة مؤلمة يجب الاعتراف بها ومغادرتها مهما كانت حصة كل فريق منهما من المسؤولية عنها والجهالة فيها.
• لقد تأخرنا نصف قرن أو تزيد نحن العروبيين والإسلاميين عن مراجعة جادة لمواقفنا، ولا بد من تحريك المياه الراكدة، وضبط بوصلة الأمة نحو قضاياها الحقة لا المدعاة.
• لا بد من ظهور هيئة عليا من الحكماء الأردنيين ليخططوا لنهضة بلدنا بحكمة وبرؤية عربية إسلامية مشتركة مستقلة واعية.
• لا أدعو لأن يذوب القوميون في الإسلاميين والإسلاميون في القوميين، إنما لنتوقف عن تقسيم الأمة على هذه الأسس المصطنعة وليذوب الجميع هم وغيرهم في مشروع وطني واحد يُعنى بالهم الداخلي المحلي لكنه لا يغفل البعد القومي والإسلامي والإنساني الاوسع.
واليوم فنحن متفقون على:
11. الخلاف بين الإسلاميين والعروبيين لم يستفد منه إلا العدو الصهيوني، ويجب أن نبحث عن طرق لتجاوزه وحسن إدارته.
2. لا يمكن أن يحصل إصلاح حقيقي قُطْري كامل إلا باعتبار الأمة وحدة واحدة متكاملة.
3. لا بد من إحياء حالة التوافق العربي والإسلامي برؤية واضحة.
44. إنّ الاختلاف الذي يُنَمّى بين أبناء الأمة، ما هو في معظمه إلاَّ على فتات لا قيمة له، أو هو ناجم عن غياب المعلومة الحقيقية والوهم المستمر.
كم تشعر بالألم الشديد وبخاصة عند مراجعة تاريخنا القريب خلال المائة عام الأخيرة والتي كان فيها الجميع ينشد الاستقلال والحرية والعدالة والخير، وقد بذل الآباء والأجداد من دمائهم ومقدراتهم الكثير، أملاً في غدٍ أفضل، ولكن النتيجة كانت ما نشهده اليوم.
والأكثر إيلاماً أن الأمة بدلاً من أن توجه سهامها للخارج دفاعاً عن نفسها، وبناءً لمستقبلها وصالح أبنائها، تصارعت داخلياً صراعاً مريراً، وبخاصة في أبرز مكونين أساسيين فيها، وهما الإسلاميون والقوميون.
الإسلاميون لا يمثلون جميع المسلمين، والعروبيون لا يمثلون جميع العرب، ولكنهما في المقدمة ومسؤوليتهما أكبر.
لكن الاستسلام لهذه الحالة والاستمرار فيها جريمة الجرائم، ولا بد من رواد صادقين يصححون الخطيئة ويستدركون ما فات، ويقلبون الصفحة، ويخترقون الحالة الموروثة بتجاوز عقدهم جميعها، ويبنون غداً واعداً، وهل يعتبرون هذا من أوجب واجباتهم الوطنية والدينية والقومية ولا يُصغون لوسوسة البعض الجاهز للتيئيس دائماً لتسهيل القعود والتكامل وتسويقه بالقول هذه أماني، وخيال، واستعراض وثرثرة، ولكن هذا هو الطريق ولا مخرج سواه، فهل من مبادر يمد يده؟