جرير خلف يكتب في .. قراءة المشهد السوري من النافذة الفلسطينية الأخرى

 

اخبار البلد : جرير خلف - بعد أن سمعنا رأي عزت الرشق عضو المكتب السياسي لحماس وبعض المفكرين الفلسطينيين الذين يقيمون في سوريا.. من المهم جدا أن يتسع صدرنا للرأي الآخر أو لمروجي انفصال أو استقلال الحالة الفلسطينية عن المشكلة الشعبية في سوريا أو في الوطن العربي.. وهذه ليست قراءة آنية لمرحلة الثورة الشعبية في سوريا بل لزمن امتد عقود تأثرت فيه القضية الفلسطيني بتصرفات النظام السوري، ويأتي هذا التعليق.. ردا أو متابعة لبعض مفكري وكتاب وسياسيين لهم مصالحهم الشخصية في البقاء في الحضن الرسمي السوري والذين يحاولون الترويج لربط الشعب الفلسطيني بكامل أفراده  بممثلية ومصالح (حماس)، وذلك لترويج انفصال التكتل الشعبي الفلسطيني والفصائل المقيمة في الأراضي السورية وربما أينما كانت عن المجتمع السوري دعما للنظام، ويرون أن مصلحة الشعب الفلسطيني تكمن في  الوقوف على الحياد أو اقرب قليلا باتجاه النظام ودون المرور بالمحطات الأخرى التي يتعمد البعض أن يقفز عنها أو يدفنها في مقابر الشهداء).

في البداية لا بد لنا أن ندرك دلائل وجود أكثر من ستمائة ألف فلسطيني يقيم على الأرض السورية منذ أكثر من ستة عقود حافظوا فيها على الهوية وعلى الانتماء للقضية دون المساس بأبجديات حسن خلق المضيف واحترام المستضيف (مع التحفظ على تسمية الإقامة بالضيافة في الحالة الطبيعية فلولا الاحتلال الصهيوني لطالبنا بالجنسية والإقامة الدائمة طالما لم نعترف باتفاقيات سايكس بيكو لتقسيم الإقليم العربي الشامي)، وخلال هذه العقود الطويلة لم تخلق هذه (الجالية) أية إرباكات اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية.. بل ساهمت في المجتمع بالقدر المطلوب منها واندمجت في المجتمع السوري بكل التفاصيل وأبقت على همها الوطني بين جدران مخيماتها دون نشره أو استعماله. 

 

وبالتأكيد لا يمكن أن ننكر سبب هذا التناغم الشعبي السوري والكيان الفلسطيني المقيم  الذي كان ذلك بفعل التقارب الاجتماعي والامتداد التاريخي والجغرافي والتقاء الايدولوجيات والعقيدة بين الشعب الواحد بجزأيه المهجر والمضيف بالإضافة الى انتفاء الآثار السلبية على هذا التواجد على الشخصية الوطنية السورية والوضع لاقتصادي الذي ساهم فيه الفلسطينيون إيجابا في سوريا.

 

إذا لم يخلق هذا التعايش (السوري الفلسطيني) الشعبي أية إرهاصات للمجتمع السوري ولم يسبب له خلالا ديموغرافيا أو طائفيا أو اقتصاديا، وتواجدت الفصائل الفلسطينية بشكل أكثف وحضورا اكبر على الساحة السورية بعد انتقالها القصري الى الحدود الشمالية لفلسطين بعد (أيلول الأسود)، حيث كان هذا العمل الفدائي على الساحة السورية تنظيميا وتعبويا وسياسيا بالمطلق وبعيدا عن التدخل في السياسة والأمن الداخلي لسوريا، وتركز العمل العسكري للفصائل من خلال الجبهة اللبنانية مع فلسطين بحكم الاتفاقيات العربية التي سمحت بذلك، وخلال ذلك كانت الحدود المؤطرة للعلاقة ما بين الشعب السوري والكيان الفلسطيني المقيم في سوريا تنمو بوتيرة هادئة وتعمل وفق الأصول الاجتماعية والاقتصادية المرغوبة والملبية للمجتمع والنظام بشكل عام حيث تركز الوجود الفلسطيني في مخيمات (فلسطين واليرموك والنيرب وخان الشيخ وجرمانا ودرعا وسبينة وحماه وحمص) ودون أن تتحول هذه المخيمات أو التجمعات الى كانتونات أو مشاريع جمهوريات مستقلة، بل اعتبرت من أفضل المناطق الآمنة والبسيطة والمنظمة اجتماعيا، حيث ساهم المجتمع السوري المحيط وبصورة شعبية في احتواء هذه الكيانات بالطريقة الأخلاقية الحقة وتعايش معهم كامتداد طبيعي أنساني عروبي له الحق في المعيشة الحرة. 

 

بينما على الصعيد الرسمي السوري امتازت العلاقة بعد عام 1970 ولغاية عام 1975 بعملية دراسة وسبر متبادلة بين قيادات الفصائل الفلسطينية وبين القيادة السورية الجديدة )بعد ما يسمى بالحركة التصحيحية( التي بدت بأنها  رأت في وجود وحركة الفصائل الفلسطينية في سوريا مشروعا مصالحيا لها وغطاء وطني يساعد في تلميع هذه القيادة، وكان من الطبيعي أن تبدأ الأمور في الاتضاح حول أهداف النظام السوري من الاستقطاب الممنهج للفصائل الفلسطينية التي حاولت معظمها المحافظة على مشروعها النضالي الوطني مستقلا.. الى أن بدأت مصالح النظام السوري تتبلور وتتضح معها الدور المطلوب لخدمة هذا النظام من الفصائل التي تتواجد على ساحته، مما افرز تناقضات ثانوية ما لبثت أن تحولت الى رئيسية عند دخول القوات السورية الى لبنان تحت إطار قوات الردع التي بدأت مهمتها في لبنان بحصار مخيم تل الزعتر لشهور ثم سحق المخيم وقتل ما يقارب الخمس وعشرين ألف شهيد فلسطيني على يد النظام السوري. 

 

إذا أصبحت العلاقة واضحة بين النظام السوري والمجتمع الفلسطيني في لبنان وسوريا والتي تميزت بالمراقبة اللصيقة لهم حيث قام النظام بعدها (وبعد دراسة الحالة ومتطلبات النظام منها) باستخدام قبضته الحديدية على الفصائل الفلسطينية التي استطاعت بحرفية عالية المحافظة نوعا ما على استقلاليتها مع علاقة متنافرة أحيانا مع النظام الذي حاول التغول على كل الفصائل فنجح مع بعضها وأسقطها جماهيريا ليستفرد بها ويحتويها ويفرغها من نخبها الوطنية ويعمل على إعادة إخراجها لتناسب متطلباته الفرعية الأخرى.. وفشل مع الفصائل الرئيسية مثل حركة فتح والتي استطاعت مواصلة النجاح في ممانعة البلع والتغول وبالتالي الوقوف بندية متقنة وبحذر ومن خلال قوتها العسكرية في لبنان مع الحفاظ على متطلبات شروط الإقامة في سوريا حسب رغبة النظام التي أكدت على إغلاق الجبهة السورية الفلسطينية أمامهم. 

 

استمرت هذه العلاقات الحذرة ما بين جذب وتنافر مع وجود الثقل السياسي والتنظيمي لفصائل منظمة التحرير الفلسطينية متنقلا بين سوريا ولبنان حتى حرب عام 1982 وهي الحرب التي استفرد الجيش الصهيوني بالمقاومة الفلسطينية والمقاومة اللبنانية آنذاك (قبل إنشاء حزب الله) فيما انسحبت قوات الجيش السوري وحلفائه دون أن تطلق رصاصة واحدة باتجاه العدو من مواقعها في الجنوب اللبناني والبقاع الغربي والشرقي مما أدى الى سقوط بيروت تحت الحصار الصهيوني لثماني وثمانين يوما كانت الدبابات السورية تجثم بصمت خجول على مسافة أمتار مع (تطنيش) رسمي سوري منقطع النظير..ذلك أدى بالتأكيد الى انكشاف الدور السوري وسقوط صفة المقاومة عنها وحماية المقاومة منها في حينها.

 

وبعد خروج المقاومة المشرف من الحصار الصهيوني..كان على منظمة التحرير الفلسطينية أن تتعايش مع الواقع الجديد الفج في علاقتها مع النظام السوري بعدما تركزت القيادات الفلسطينية في سوريا وشمال لبنان الذي كان تحت السيطرة السورية مما جعل استمرارية المجاملات البروتوكولية أمرا صعبا على الطرفين أمام التعايش اليومي المباشر والإحداث الخارجية المستفزة، مما دفع بالطرف القوي وهو هنا النظام السوري بالتكشير عن أنيابه لمحاولة التخلص من كل الشخوص والكيانات الفلسطينية المنغصة عليه بكشفها المبكر عن مدى فعالية الوطنية الذي يتاجر بها النظام السوري على حساب القضية الفلسطينية وأدى ذلك الى استشهاد العديد من القادة في منظمة التحرير على أيدي (مجهولة)، ولتبدأ بعدها معركة كسر العظم الفلسطيني بتصنيع انشقاق بتاريخ 9 مايو 1983 لحركة فتح حيث أدى ذلك الى استبعاد القائد الشهيد أبو عمار من سوريا واحتلال كل مراكز منظمة التحرير الفلسطينية في سوريا بعض مخيمات لبنان من قبل ما يسمى بحركة فتح ( الانتفاضة) و(القيادة العامة) بقيادة شخصيات فلسطينية محسوبة على النظام السوري.

 

وانتهت محاولات الانشقاق وتركيز الضغط على الكادر العامل في فصائل منظمة التحرير الفلسطينية الى خلق معسكرين فلسطينيين متناقضين احدهما رأى العمل وفق مصالحه الشخصية تماما.. فبدأ يعمل وفق تعليمات النظام السوري من خلال المكتب الذي يختص بالفصائل الفلسطينية ويسمى (الضابطة الفدائية).. والآخر ممانع لكل أشكال التغول والسيطرة السورية والذي أصبح بالتالي  مستهدفا من النظام الأمني السوري..لتنتهي هذه الفورة من الصراع وبعد مناكفات مستمرة من النظام والفصائل التابعة له بحصار ظالم لمخيم نهر البارد والبداوي في شمال لبنان حيث انتهى هذا الحصار بمذبحة جديدة في حق المخيمات والفصائل الممانعة للتغول السوري، حيث أدى ذلك الى هجرة الثقل الفلسطيني المقاوم الى تونس والأردن واليمن وليبيا والجزائر والعراق ليستمر القمع الرسمي السوري لمؤيدي الاتجاه الفلسطيني الوطني في تجمعات الشعب الفلسطيني في سوريا ولبنان الذي عاش معارك وجولات كانت آخرها حرب المخيمات في لبنان التي استمرت ثلاث سنوات حتى عام 1988 التي قامت فيها القوات السورية بدعم وتوجيه حركة أمل لحصار وتصفية المخيمات الفلسطينية في بيروت وأدى ذلك الى سقوط الآلاف من الشهداء الفلسطينيين. 

 

وحيث لم تكسر الأحداث السابقة إرادة منظمة التحرير التي استطاعت إعادة الانطلاقة وتعايشت مع الوضع الجديد واستطاعة مداومة الاتصال مع قيادات الداخل وأدارت فعاليات الانتفاضة الفلسطينية الأولى والثانية وبرهنت على قوة هيكلها.. مما أدى الى انكشاف الغطاء الساتر قوميا للنظام السوري التي أبقت على بعض الفصائل الفلسطينية في سوريا تحت المراقبة والإملاءات.. إلا أن جاءها طوق النجاة من قبل حركة حماس التي ولدت في الكويت عام 1988 والتي بدأت بالبحث عن أحضان دافئة لها بعد سنوات من التصادم المتتالي مع الدول العربية.. لها لتلتقي مصالح قادتها  بالمصالح السورية ليتجاوزا الخلاف الأيدلوجي والثأري بين حماس كونها (الابنة البيولوجية) للإخوان المسلمين وبين النظام السوري.

 

بالتالي عملت سوريا على محاولة الأخذ بالثأر من منظمة التحرير الفلسطينية التي استطاعت المحافظة على نفسها وعلى قرارها وقادت برئاسة الشهيد أبو عمار المركب الفلسطيني ضمن تسونامي مفاوضات السلام مع المحافظة على الثوابت الفلسطينية بحرفية ضبابية للبعض ربما، حيث كانت سوريا وحماس بالإضافة الى حزب الله تعمل على انتزاع لقب المقاومة والمتاجرة بها، وكل من هذه الأطراف له هدفه المحدد، مما أدى الى تقوية شوكة حماس من خلال الدعم المادي والإعلامي واللوجستي لها وأدى هذا الدعم الى المساهمة في انقسام وسلخ غزة عن المشهد الفلسطيني الكامل لتبقى رهينة لأمزجة الكيان الصهيوني وقادة حماس ومكتب الضابطة الفدائية في دمشق، وجاءت المصالحة الأخيرة حلا تخديريا وخطة بديلة محتملة لحماس تساعد على استيعابها في المجموعة العربية عند سقوط النظام السوري.

 

هنا وبهذا السرد التاريخي المبسط الذي عاشه الكثير منا بشكل كامل وواضح المعالم يقفز الى الأذهان متناقضات كثيرة وكبيرة تجعلنا نؤكد على ميكافيلية حماس وسوريا اللتان تحاولان  اختطاف الشعبان السوري والفلسطيني لاستخدامهما كلا في صالح كرسي النظام الآخر وفي خدمة المشروع الفارسي (عرّاب الخراب)، حيث بجرده بسيطة نجد أن ضحايا النظام السوري وحلفائه وصلت لأكثر من ثمانين ألف شهيد فلسطيني وأكثر من مائة ألف شهيد سوري وأكثر من ثلاثين ألف شهيد من الشعب اللبناني وكل ذلك باسم المحافظة على المعسكر (المقاوم) الذي لم يطلق رصاصة واحدة باتجاه الجولان المحتل ولم يحرر مرقد نعجة من أرضنا المحتلة، ومن كبائر الأمور أن ننزوي في خانة المتفرجين على المتاجرين بالدم العربي أينما كانوا.. وباسمنا جميعا قاموا باصطياد أطفالنا في درعا وتل الزعتر وحماة والفاكهاني  كما في حفلات الصيد في البراري.. والجائزة للصامتين.. موكب من السيارات السوداء يحميها مرافقين ذو نظارات سوداء تجوب شوارع دمشق.. وبداخلها يجلس على كراسيها الجلدية الفاخرة (مقاومي) حماس..

 

جرير خلف