مبالغة في غير محلها


ليس مفهوما اهتمام وسائل الإعلام المختلفة في مصر بموضوع التعديل الوزاري، حتى أزعم أن إبرازه ضمن عناوين الصفحة الأولى للصحف يعد من قبيل المبالغات غير المبررة. بذات القدر فإنني استغربت استئساد بعض أعضاء مجلس النواب على الحكومة، وتعدد الآراء في هذا الصدد، بين مطالبين بتغيير أربعة وزراء، وآخرين فضلوا تغيير عشرة في حين علا صوت فريق ثالث مطالبا بتغيير الحكومة كلها، بما في ذلك رئيسها ذاته. وهي آراء أقرب إلى المناقشات التي تأخذ الموضوع على محمل الجد، في حين أن الأمر ليس كذلك بالضرورة. فأي قارئ للصحف لابد أن يلاحظ أن الحكومة منذ شكلت تتحرك في حدود التوجيهات التي تصدر عن رئيس الجمهورية، بحيث لا يكاد يمر يوم دون أن تنشر الصحف أن الرئيس وجه بكذا أو أصدر تعليمات بكذا. وفي السابق كان الرئيس يعقد اجتماعاته مع الوزراء مباشرة في العديد من المجالات في غيبة رئيس الحكومة، وهو ما أثار تعليقات عدة تم احتواؤها فيما بعد بحيث أصبحت تلك اللقاءات تتم في حضور رئيس مجلس الوزراء. وكان ذلك تصرفا سديدا حافظ علي الشكل، ووضع رئيس الحكومة في الصورة، في حين أنه لم يغير شيئا في الموضوع، أما جوهر الموضوع فهو أن الرئيس هو الذي يصدر القرارات وهو صاحب الكلمة الأخيرة في السياسات، أما رئيس الحكومة فهو في حقيقة الأمر قائد فريق المنفذين، والوزراء هم من يباشرون التنفيذ كل في اختصاصه، وإذا كان صحيحا أن الرئيس السيسي كثير التدقيق في التفاصيل، حتى أنه طلب ذات مرة ألا يتم التعاقد مع شركات أو مستثمرين إلا بعد العرض عليه، فالأصح أن الرئيس يمارس سلطته في الحدود التي كفلها له الدستور الأخير الصادر في عام ٢٠١٤، ولذك قصة لا أمل من التذكير بها، لكنني سأقدم لها هذه المرة بالتنبيه إلى أن الدساتير ليست كتابا يؤلفه نفر من الخبراء، ولكنها تظل مرآة عاكسة لواقع المجتمع وموازين قواه السياسية والاجتماعية، فقوة المجتمع التي تتمثل في تعدد أحزابه وعافية مؤسساته المختلفة، تعبر عنها مواد الدستور حين وضعه بصورة تلقائية والعكس صحيح. فدستور مصر الصادر في عام ١٩٢٣ استلهم الواقع السياسي الذي كانت الأحزاب السياسية فاعلة فيه. أما دستور عام ١٩٧١ الذي صدر في المرحلة الساداتية وجاء في مناخ ضعف الحياة السياسية وهيمنة الحزب الوطني الديمقراطي، فإنه جاء معبرا عن ذلك الواقع الذي قويت فيه السلطة في مواجهة المجتمع، بحيث تضخمت فيه سلطات الرئيس. أما بعد يناير ٢٠١١، حين تعالت أشواق الممارسة الديمقراطية، فإن دستور ٢٠١٢ أضعف من سلطة رئيس الجمهورية، بحيث نص على أنه يمارس سلطاته ومهامه من خلال رئيس الوزراء، إلا أن هذا النص ألغي في دستور ٢٠١٤، الأمر الذي أطلق يد رئيس الجمهورية في إصدار القرار دون الرجوع بالضرورة إلى رئيس الوزراء أو الوزراء المعينين.
هذا الإيضاح يسلط الضوء على خلفية القضية التي نحن بصددها. أعني أن صياغة دستور عام ٢٠١٤ اختارت في وقت مبكر الانحياز إلى تقوية موضع الرئاسة وترجيح كفة السلطة التنفيذية في مواجهة المجتمع، اللافت للانتباه في هذا الصدد أن الخلل في موازين القوة السياسية وتعزيز موقع الرئاسة أفضي إلى نتيجة لا تخلو من مفارقة، هي أنه في حين أن الرئيس هو من يصدر القرار ويرسم السياسات التي يفترض نظريا أن الحكومة شريكة فيها، فإن المسؤولية عن الأخطاء والإخفاقات تظل ملقاة على عاتق الحكومة دون غيرها.
لسنا نبالغ إذن إذا قلنا إن الحكومة في ظل الدستور الحالي تكتسب أهمية إعلامية فقط، دون أن تكون لها أهمية سياسية، لأنها أقرب إلى سكرتارية الرئيس المعدة لاستقبال التوجيهات منها إلى الحكومة المستقلة صاحبة القرار. وهو ما يفسر عزوف بعض الشخصيات العامة عن قبول مناصب الوزارة بما في ذلك رئاستها.