سوق العمل والتخصصات الهندسية


مخرجات التعليم العالي وتخصصاته وبرامجه الأصل فيها أن تواكب شهادته سوق العمل لا أن توضع على الرفوف والحوائط وفي الجوارير! وحيث يشهد الأردن –والحمد لله تعالى- ثورة تعليمية كميّة وربما نوعية، إذ إن الجامعات تحوي ما يربو عن ثلاثمائة ألف طالب وطالبة على مقاعد الدراسة ونسبة لا بأس بها تدرس بالخارج أيضاً، ويتخرّج منهم سنوياً أكثر من خمسين ألفاً. وتشير الإحصاءات أن ملفات ديوان الخدمة المدنية تحوي أكثر من 320 ألف طلب توظيف، ومع الأسف لا يتوظّف منهم أكثر من 6% إلى 7% سنوياً في وزارتي التربية والتعليم والصحة وفي تخصصات محددة بعينها، وبعض طالبي الوظيفة يتّجه للقطاع الخاص الذي يستقطب بعض الكفاءات والتخصصات المحدودة وفق التنافسية أحياناً والواسطة والمحسوبية أحياناً أخرى. مما يؤشر إلى أن الكم الأكبر من الخريجين والكفاءات الأردنية إمّا تبقى عاطلة عن العمل أو تتجه لسوق العمل الخارجي.

سوق العمل في دول الخليج العربي مفتوح على الغارب حيث الاستثمارات والملاءة المالية، وهي فرصة مواتية لنشكر من القلب الأشقاء في دول الخليج العربي والذين يحتضنون معظم الأيادي العاملة الأردنية لخبراتهم وكفاءاتهم وتنافسيتهم لأنهم أيضاً يحتاجون للخدمات النوعية والإنتاجية عن طريق قوى بشرية مؤهلة ومدربة وكفؤة.

فعلى سبيل المثال، خريجو كليات الهندسة –رغم كفاءتهم وتميزهم- في العديد من التخصصات أصبحوا يعانون من بطالة عالية نسبياً وبات معظم تخصصاتهم مشبعة أو راكدة كنتيجة لارتفاع أعداد الخريجين، فمنتسبي النقابة أكثر من 140 ألف مهندس وعلى مقاعد الدراسة حوالي 70 ألف، أي أن عددهم سيصل في الخمس سنوات القادمة قرابة 200 ألف مهندس، واعتزازنا أكيد بالمهندسين واعتبرهم بناة الوطن في بُناه التحتية والفوقية، والمستويات التي وصلنا لها متميزة وفريدة، لكن نسبة المهندسين في الأردن هي الأعلى عالمياً بالنسبة لعدد السكان حيث تصل بواقع مهندس لكل خمسين مواطنا، وبالرغم من البطالة والتخصصات المشبعة ما زال العديد يدرسون الهندسة بمختلف التخصصات والسبب أن سوق العمل المحلي والإقليمي والخليجي تحديداً مفتوح للجميع، ونقابة المهندسين بالشراكة مع ديوان الخدمة المدنية وهيئة الاعتماد مشكورين لديهم نشرة سنوية لتوجيه الطلبة صوب التخصصات المطلوبة لسوق العمل، لكن هنالك إغراق لسوق العمل والخريجين في بعض التخصصات، والمصيبة أن بعض الجامعات ما زالت تفتح أقساماً لهذه التخصصات، ومثال على ذلك الهندسة المدنية والذي لم تبقَ جامعة رسمية أو خاصة إلّا حوته بالرغم من وجود حوالي 40 ألف مهندس مدني و 18 ألفا على مقاعد الدراسة! فالطلبة وأهلوهم يقبلون على التخصص بعينه حتى يغرق سوق العمل به كثقافة مجتمعية غريبة ودون دراسات حقيقية!

نحتاج لتوجيه التعليم الهندسي والتشاركية مع الجامعات لغايات حصر التخصصات المطلوبة وإيقاف الراكدة والمشبعة وبطريقة ديناميكية دائبة، والسؤال المُحيّر: أين سيذهب هؤلاء الخريجون؟ حاجات سوق العمل المحلي والإقليمي محدودة بالطبع! أم لطابور العاطلين عن العمل! فبصراحة هنالك تخبّط وعدم توافقية في توجيه التخصصات بين المؤسسات الأكاديمية والمهنية والأهل والطلبة وسوق العمل، والمطلوب خطة تشاركية عاجلة لإنقاذ التعليم الهندسي وتوجيهه وتقنينه صوب الحاجات المطلوبة لسوق العمل.

ومشكلة أخرى أن هنالك ممارسات ابتزازية تمارس ضد بعض طالبي الوظيفة بالخارج والداخل وخصوصاً حديثي التخرّج من قبل بعض الشركات المحلية أو الأشخاص الذين يأخذون دور الوسيط في التوظيف. فعلى سبيل الأمثلة لا الحصر هنالك اقتطاعات مالية من رواتب طالبي الوظيفة لمدة عام أو إجبارهم على التوقيع على عقود برواتب هزيلة أو إجبارهم على توقيع عقود لمدد طويلة الأجل دون الحق بزيادة الرواتب وغيرها من الممارسات السلبية، هذا بالطبع لمن يجد أمل لفرص العمل، بيد أن الباقي ينضم لطوابير العاطلين عن العمل، هذا بالطبع في ظل توافر فرص العمل بالخليج العربي وغيره، فماذا لو انكمش أو تراجع هذا السوق الذي يحوي قرابة نصف مليون أردني من أصحاب الكفاءات المتميزة؟

الدعوة هنا صريحة لحاجتنا الماسة لإعادة تنظيم التخصصات والبرامج الجامعية الجامعية للتوجه صوب التعليم التقني وبرامج الدبلوم تحديداً والمطلوبة لسوق العمل، ويتطلّب ذلك من الحكومة وضع حوافز للخريجين لغايات إقناعهم بالقبول في برامج الدبلوم، كما يتطلّب إيجاد جهة تنظيمية تساهم في تسويق الكفاءات الأردنية، وهذه الجهة تأخذ دور تنسيقي ليساهم فيها ويدعمها كل مؤسسات الدولة كل حسب اختصاصه لأن ذلك مسؤولية وطنية وحق المواطنة للمواطن على الدولة. فعلى سبيل الأمثلة لا الحصر واجب السفراء الأردنيين تزويد هذه الجهة التنسيقية المقترحة بفرص العمل المتاحة في كل الدول التي تربطنا بهم علاقات دبلوماسية وصداقة وأخوة، ويُعلن عن هذه الوظائف للعموم وفق أسس ومعايير شفّافة تماماً كعمل ديوان الخدمة المدنية الذي يتولّى التوظيف بداخل الوطن –وربما يُناط دور تنسيق التوظيف بالخارج أيضاً بنفس الديوان لخبراته المميزة في هذا الصدد-، وبعدها تتم عملية اختيار المتقدمين وفق المعايير والأسس المطلوبة للتوافقية بين شقي معادلة العرض والطلب.

هذا الطرح يصيب عدة عصافير بنفس الحجر، فمنها نحقق دعما للاقتصاد الوطني ونُعظّم مدخولات المغتربين، ومنها نُساهم بكبح جماح البطالة، ونوقف الابتزازات التي تُمارس بحق البعض، ونُسوق كفاءاتنا ونوظّفها بالمكان المناسب.

هنالك دور غائب لمؤسساتنا المعنية بالتوظيف لغايات المساهمة بتأطير توظيف شبابنا خارج الوطن أو على الأقل السعي صوب إيجاد قاعدة بيانات بهذا الصدد، ونأمل من الوزارات المعنية كوزارات الخارجية وشؤون المغتربين والعمل والتعليم العالي وغيرها إيجاد صيغة توفيقية فيما بينهم للتنسيق لهذه الغاية.

بصراحة بتنا نحتاج لهبّة وطن وتضافر للجهود الوطنية للقضاء على البطالة والفقر المعضلتين المؤرقتين جداً واللتين باتتا مؤثرتين على الوضع الاجتماعي والسلم المجتمعي والأمن الاجتماعي والوضع النفسي لأبنائنا الشباب وأهليهم، وخصوصاً شق البطالة المقنّعة والتي تأخذ منحى تكديس للشهادات الأكاديمية، وبتنا أيضاً بحاجة لإستراتيجية جديدة توفيقية توائم بين حاجات سوق العمل المحلية والإقليمية ومخرجات التعليم العالي، وبتنا بحاجة لإستراتيجية جديدة لتنظيم تسويق الكفاءات الأردنية في الخارج تحديداً أساسها تضافر الجهود الوطنية صوب القضاء على البطالة والتي طالما وجّه جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين حفظه الله ورعاه لها الحكومات المتعاقبة لغايات التخفيف منها وحلها إلى جانب القضاء على الفقر أيضاً، حفظ الله الأردن الوطن وكفاءاته الوطنية وقيادته الهاشمية وأجهزته الأمنية وجيشه البطل وشعبه الوفي.