مناجاة ووعي كوني

أخبار البلد -  كنت استمع اليه مناجياً خالقه:


يا رب.. يا من يخشع له كل شيء, ويقوم به كل شيء, ويغنى به كل فقير, ويعز به كل ذليل, ويقوى به كل ضعيف, ويفزع اليه كل ملهوف..

يا رب.. يا من يسمع كلام الناطقين ويعلم سر الساكتين, ومن عليه رزق الحي, واليه منقلب الميت..

يا رب.. كل سر عندك علانية, وكل غيب عندك شهادة..

يا رب.. إنه لا ينقص سلطانك من عصاك, ولا يزيد في ملكك من اطاعك..

يا رب.. انك انت الابد فلا امد لك, وانت المنتهى فلا محيص عنك, وانت الموعد فلا منجى منك الا اليك.

يا رب.. سبحانك ما اعظم ما نرى من خلقك, وما اصغره في جنب قدرتك. وما اهول ما نراه من ملكوتك, وما أقلّه فيما غاب عنا من سلطانك!

وكان يريد ان يمضي في مناجاته حين اوقفته متسائلاً: ترى عن أي مشكاة يصدر فيما هو فيه وأي الموارد ملأت فؤاده ففاض بهذا التمجيد للعلي الحميد؟

قال مطمئناً رضي البال: إن الواردات كثيرة يا عزيزي, وهذا كتاب الله الذي أحكمت آياته, وهذا حديث نبيه الكريم, ثم هذه خطب الامام علي كرّم الله وجهه واقواله, فإن ما قلته انما يتوسّمه الناظر في هذه الافاق, ويرى اليه في انوارها..

قلت: إن مناجاة رب العباد على هذا النحو لتشتمل على اصول في التفكير ومناهج في النظر وطرائق في الاستدلال كفيلة بانتقال الوعي البشري من دائرة ما يسمع ويرى في هذا العالم – من حيث هو معطى اول لعقله وحواسه ومضمار لحدوسه – الى ما وراءها من مقتضيات البرهان وآفاق العرفان. وكم في ذلك من خروج ظافر للنفس من ضيق الى سعة ومن تقييد الى اطلاق.

انها مناجاة تضعنا في صميم ما سمّاه العقاد رحمه الله بالوعي الكوني الذي يصلنا بحقائق الوجود ويضعنا على تخوم مطلقاته ولا نهائياته..

على أن هذا النمط العزيز من توجه القلب الى مقلّب القلوب وتوجه العقل الى دلائل التوحيد لا يكون إلا بعد مكابدات ومكابدات وضروب ابتلاء وتمحيص, وهيهات يتفق ذلك الا لافراد متباعدين في العقود من السنين.