عقلية «الفزعة»




كل ما جرى ويجري في العالم العربي، من ضياع، وفوضى وتخبط، يرجع الى غياب الاستراتيجية العربية، وإلى سيادة المقولة القديمة الجديدة (عقلية الفزعة)، أو (العليق عند الغارة) ... !!. فلو تمسكت الدول العربية او لنقل بالأحرى الأنظمة العربية، بالأمن القومي العربي، كما نصت مواثيق الجامعة العربية، وكما يفرض ضرورات الأمن الوطني الذي لا ينفصل عن الأمن القومي، لما وجدنا هذا الخلل الكبير، والذي يتمثل في الاستعانة بالدول الكبرى والتحطيب بحبالها، وهو ما ينطبق عليه مقولة (استقدام الذئب الى حظيرة الغنم) ... !!.

وبكلام اوضح؛ الاستقواء بالولايات المتحدة الأمريكية، والذي بدا واضحا بغزو العراق عام 1991، واستمر وسيستمر، يفسر الحالة العربية الراهنة، ويفسر ضياع الرؤية، وفقدان الاستراتيجية، ما ترتب عليه تغيير التحالفات بين الحين، والآخر، وهو ما يعتبر بداية عصر الانحطاط العربي، والمرشح ان يستمر ما دامت عقلية (داحس والغبراء) هي التي تحكم. وهذا بدورنا يقودنا إلى التأشير على مكامن الخلل والخطأ، وهو كان ولا يزال العدو الصهيوني، فلو بقيت الأنظمة العربية كلها مؤمنة تماما، بأن العدو الصهيوني الذي يحتل فلسطين والمقدسات هو العدو الاول، وهو مصدر الخطر، ومستنقع الإرهاب، لما وجدنا هذا التفتت، وهذا التشرذم، ولما اختلطت الصورة حتى أصبح البعض يتساءل هل لا تزال اسرائيل هي العدو الاول؟!.

إن طعن الثوابت بدأ في (كامب ديفيد)، وهو سبب هذا الخلل الكبير، وسبب سقوط نظرية الأمن القومي العربي، وسبب الانهيار في جدار المقاومة، وهو سبب اعتبار إسرائيل (دولة جارة) وليست عدواً يحتل ألارض العربية ويحتل أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، وتوقيع اتفاقيات ما يسمى (السلام معها)، وإقامة ممثليات (لإسرائيل) في كثير من الدول العربية، وفتح أوتستراد ( التطبيع) على مصراعيه، مع أغلب الدول العربية، لدرجة جعلت المجرم الإرهابي نتنياهو) يتباهى في خطابه الأخير في الأمم المتحدة (بانه لم يبق لإسرائيل أعداءً بين الدول العربية).

وحتى لا نغرق في التفاصيل، فلقد حددت (إسرائيل) أهدافها جيدا، وحددت خطوات تحقيق هذه الأهداف من قبل إنشائها على أرض فلسطين العربية، وعملت على توفير أسباب تحقيق هذه الأهداف ... من حيث القوة العسكرية والتسليح والموارد البشرية والمالية والخبرات و التقنية والعلم ... الى آخره، في حين أن الدول العربية لم تحدد اهدافها بدقة، وبقيت هذه الأهداف غائمة غامضة ... فبقيت (إسرائيل) عدوة الامة ... هذا صحيح، ولكن هذه الدول لم تهيء الأسباب لتحقيق الانتصار على هذا العدو، فكانت النتيجة هزائم متلاحقة، ومن يستحضر صورة معارك 1948، 1967 وحتى 1973، يجد أن منطق عقلية (الفزعة) هو الذي سيطر على هذه الحروب، ومن هنا كانت النتائج واضحة ... هزائم تتلوها هزائم، ولم يتوقف الامر عند هذا الحد، بل أن توالي هذه الكوارث دفع البعض، إلى اسقاط المشروع القومي وإعلاء أسوار القطرية، ودفع البعض ألى زرع مقولة أن الانتصارعلى العدو الصهيوني مستحيل، وهو ما أدى في النهاية إلى توقيع معاهدات ما يسمى (السلام) ... علما بان الجيوش العربية انتصرت في معركة الكرامة ومعارك الاستنزاف ومعارك العبور، وحرمت المقاومة العدو من تحقيق الانتصار في عدوانه على لبنان عام 2006 وعدوانه على غزة، وانتصرت انتفاضة الشعب الفلسطيني (الحجارة والأقصى) اللتان فاجئتا العدو وأجبرته على الاعتراف بوجود الشعب الفلسطيني المقاوم، وأثارت الهلع والفزع في أوصاله، ما أدى إلى هجرة صهيونية معاكسة.

عقلية (الفزعة) و (الغارة) لم تعد سلوكا فرديًا فحسب، بل أن سياسات الأنظمة العربية، ومنذ الاستقلال وحتى اليوم، تؤكد أن هذه الدول لم تغادر هذا المربع ... فالعقلية الارتجالية لا تزال مسيطرة، وهي سبب كل المصائب، من فشل التنمية، وإزدياد المديونية، وإرتفاع منسوب الفقر والبطالة والجريمة، وإتساع مستنقع الفساد، حتى أغرق البلاد والعباد، وإنتشار الواسطة والمحسوبية والرشوة، وأخيراً زلزال الحروب المذهبية والطائفية، والذي يؤكد أن البناء العقلي والثقافي للأمة هش ويسهل اختراقه وتحطيمه.

باختصار ...

غياب الاسترتيجية العربية ... واغتيال الأمن القومي العربي وتردي الأوضاع العربية، يؤكد أن عقلية (الفزعة) والارتجالية لا تزال تحكم العقل العربي والسياسة العربية، وما نزال نعيش مقولة الشاعر الضّليل امرؤ القيس بكل تفاصيلها (اليوم خمرٌ وغداً أمرٌ).