هجوم اسطنبول نمط مقلق

تعرضت تركيا على مدى عقود لهجمات إرهابية عديدة نفذها «حزب العمال الكردستاني» وقد تمكنت تركيا من تجاوزها نسبيا ودخلت مع قدوم حكومة العدالة والتنمية منذ 3003 في عملية سلام بالتفاوض مع زعيم التنظيم عبدالله أوجلان وعلى الرغم من تعثر المفاوضات إلا أنها جلبت نوعا من الاستقرار مكن تركيا من إنجاز نهضة اقتصادية وحسنت من ملف تركيا للتفاوض بشأن الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي لكن تركيا اليوم تعاني من نمط إرهابي مقلق يهدد الاستقرار والتنمية ليس بسبب الهجمات الإرهابية ولكن من نمطها الذي يخلق انقسامات واستقطابات حادة داخل المجتمع التركي.


الهجوم الدموي الأخير على ملهى ليلي وسط مدينة اسطنبول في ليلة رأس السنة الميلادية 31 ديسمبر والذي أودى بحياة 39 شخصاً على الأقل وأدى لسقوط عشرات الجرحى من الأتراك والعرب والأجانب كشف عن هشاشة أمنية واضحة فقد تجاوز منفذ الهجوم الإجراءات الأمنية وتمكن من تنفيذ العملية ثم لاذ بالفرار ببساطة دون القبض عليه حتى اللحظة رغم حالة الطوارئ المعلنة منذ محاولة الانقلاب الفاشلة في يوليو الماضي.

تصاعدت وتيرة العمليات الإرهابية في تركيا وتعددت الجماعات الإرهابية التي تستهدف تركيا خلال السنة ونصف الماضية حيث تعرضت تركيا منذ يونيو 2015 لعدد من الهجمات وصل إلى 33 هجوماً إرهابياً كبيراً أسفرت عن مقتل أكثر من 730 شخصاً وقد نفذ هذه الهجمات تنظيم «الدولة الإسلامية» و»حزب العمال الكردستاني» وبعض الحركات المنشقة عن العمال كحركة صقور حرية كردستان وبعض فصائل اليسار الثوري لكن الحكومة التركية أضافت إلى هذه الجماعات جماعة فتح الله جولن واتهمت منفذ عملية اغتيال السفير الروسي في أنقرة أنها تقف خلف العملية.

أحدى المسائل المقلقة في هجوم الملهى أنه أثار حالة من الاستقطاب داخل تركيا وبلغت أصداؤه أجزاء من العالم العربي نظرا للجدل حول إدانة الهجوم المطلقة أو التحفظ أو إدانة الضحايا فالهجوم لم يكشف عن خلخلة الأوضاع الأمنية فحسب بل كشف عن هشاشة البنية الاجتماعية الثقافية التي دخلت في نقاشات حول مسألة الملاهي وحكم مرتاديها وبهذا فقد حقق تنظيم الدولة الإسلامية هدفا بعيدا في خلق حالة من الانقسام عبر التلاعب بالمشاعر والهويات الدينية فوق الوطنية وأصبح فعل الإرهاب وضحاياه مسألة هامشية.

بعيدا عن تداعيات هجوم اسطنبول في العالم العربي ففي تركيا المستهدفة برزت حالة استقطاب شديدة تمركزت حول شخصية الرئيس القوي رجب طيب أردوغان بحيث انقسم المجتمع التركي بين مؤيد لأردوغان ومعارض له في طول البلاد وعرضها وبات الجدل ينصب على لوم الأطراف لبعضها والدخول في مناكفات واتهامات بدلا من طرح السؤال الأهم وهو: لماذا تحدث الهجمات الإرهابية؟ وكيف يمكن وقفها؟ الأمر الذي يبعث على قلق مضاعف يتمحول حول قدرة مؤسسات الدولة ووحدة مواطني الجمهورية.

تطالما وصفت تركيا بأنها دولة مؤسسات أمنية قومية قوية ولم يكن ذلك الوصف مجانيا ومجانبا للحقيقة فقد تمكنت فعلا من إحباط موجات إرهابية سابقة تمثلت بحالة التمرد الكبيرة التي قام بها «حزب العمال الكردستاني» خلال عقد التسعينيات من القرن الماضي، وساعدت ذات المؤسسات البلاد على تجاوز أزمات تاريخية خطيرة سابقة عندما نشب قتال أشبه بالحرب الأهلية في الشوارع والذي وقع بين يمينيين متشددين وجماعات يسارية متشددة خلال السبعينيات، الأمر المقلق مع الموجة الجديدة من الإرهاب هو غياب نقاش جدي صريح حول طبيعة العنف وخطورته والانخراط في حالة من الانكار والانشغال في الجدال حول مسائل تتعلق بالسلطة والمكاسب الانتخابية وإلقاء الاتهامات خارج إطار سبل مواجهة الموجة الجديدة من الإرهاب.

المشكلة أن الجميع في تركيا يعلم الجهات التي تستهدف أمنها واستقرارها بصورة لا لبس فيها وهذه الجهات تعلن مسؤوليتها بصورة صريحة وتفتخر بتبنيها دون مواربة وتتمثل بـ»حزب العمال الكردستاني» الذي يفضل ضرب أهداف أمنية في هجماته كما فعل مؤخراً في 11 ديسمبر عندما شن الحزب هجوماً انتحارياً بسيارة مفخخة على حافلة تقل ضباط شرطة مما أدى إلى مقتل ما لا يقل عن 38 شخصاً من المدنيين والمسؤولين الأمنيين على السواء وأسفر عن إصابة 150 شخصاً آخر بجروح.

أما الجهة الأخرى فهي تنظيم «الدولة الإسلامية» الذي نفذ مجموعة من الهجمات على أهداف مختلفة عسكرية ومدنية وقد أعلن مسؤوليته عن الهجوم الأخير الذي وقع ليلة رأس السنة الجديدة في اسطنبول، ولذلك فإن الجدل ينبغي أن يكون واضحا دون الدخول في صراعات على السلطة بعيدة عن طبيعة التحديات الأمنية، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا بحسب سونر جاغابتاي هو إذا كان مرتكبو الهجمات الإرهابية في تركيا واضحين للغاية، فلماذا تبدو تركيا غير قادرة على منع مد الإرهاب الذي تواجهه؟ تكمن الإجابة في أن الأتراك منشغلون للغاية بمحاربة بعضهم البعض، بدلاً من التركيز معاً على محاربة الإرهاب.

لا يبدو أن العالم العربي يختلف كثيرا عن الحالة التركية فعقب أي هجوم إرهابي تبرز حالة من الاستقطاب الضار ويبدأ الجميع بإلقاء اللوم على بعضهم البعض عوضا عن الدخول في نقاش جاد ينهض بالدولة والمجتمع وفي تركيا لا أحد يقوم بمناقشة الإخفاقات الأمنية التي ربما تكون قد تسببت بوقوع هجمات ولا أحد يقترح إجراءات من شأنها أن تساعد في منع وقوع هجمات أخرى في المستقبل، ولا يقترب أحد من مناقشة السياسات الخارجية وفعاليتها الإيديولوجية وانعكاساتها على السياسات الداخلية وهكذا فإن الاستقطابات تصبح بديلا عن النقاشات وتتكرر العمليات.