ادفع بالتي هي احسن

هموم السياسة –على كثرتها باعتبارها المدخل لسائر الهموم، والبداية للاصلاح الشامل– تصرفنا في كثير من الأحيان عن أوضاعنا الاجتماعية، التي باتت تؤرق العقلاء في هذا الوطن، فلا نكاد نلتفت إليها إلا حين نفجع بعزيز نفقده، أو بصراعات في الجامعات والمدارس والملاعب الرياضية، تخلف جراحات في النفس والجسد على حد سواء.
والمتأمل في الأمور ومآلاتها يدرك أن استثماراً حقيقياً في ثقافة المجتمع يجنبنا كثيراً من الضحايا، ويعيد الى مجتمعنا تماسكه وصورته التي تضررت كثيراً بعد أن أطلقت الغرائز من عقلها.
أمس زارني نفر كريم من أبناء البادية الوسطى، ولما كان الحديث ذا شجون، فقد أشار أحدهم الى واقعة حدثت معه شخصياً كادت تؤدي الى ما لا يحمد عقباه، لولا لطف الله، ثم حكمة الحكماء.
وتتلخص الواقعة في أنه كان ذات يوم يقود مركبته الخاصة في أحد شوارع عمان، ولدى موازاة أحد السائقين له عاجله ببصقة دون أن يجد لها مبرراً، فطافت خواطر عدة في رأسه، أيرد على البصقة بمثلها، أم يترجل من سيارته فيرد على البصقة بقنوة أو شبرية أو طلقة مسدس؟ وأخيراً قفز الى ذهنه قول الله تعالى (ادفع بالتي هي أحسن فاذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم) عندها استعاذ بالله من الشيطان الرجيم، ومضى في طريقه، ولكنه فوجئ بالسيارة ذاتها تشق طريقها بسرعة فائقة لتتوقف أمام مركبته، وترجل منها شيخ كبير، تزين عارضيه لحية بيضاء طويلة، بينما بقي السائق الذي أساء إليه جالساً وراء مقود السيارة، ودنا الشيخ من الرجل المجروح في كبريائه وقال له: جزاك الله خيراً، فقد صبرت على سوء تصرف ولدي، فأنا اعتذر إليك، وأقبل رأسك، عرفاناً بفضلك، فقد جنبتنا بحلمك مشكلة لا نعلم نهايتها، فأجابه الرجل: بل أنا أقبل رأسك فأنت شيخ كبير، لك الاحترام والإكرام.
وشعر الشيخ بأنه لم يف الرجل حقه، فأقسم عليه أن يزوره على التو في بيته، لتناول القهوة العربية. ولم يملك الرجل الحكيم إلا الاستجابة لرجاء الشيخ، والبر بقسمه. وأحب الشيخ أن يزداد معرفة برجل قدر الله على يديه أن يدفع عنه وعن عائلته شراً فسأله: ماذا تعمل يا أخا العرب؟ فأجابه: في تجارة السيارات، فقال: إن لدينا سيارة نرغب في بيعها ويمكنك أن تراها، فلما عاينها قال: كم تساوي هذه السيارة ؟ فأجاب: في ظني ستماية دينار، فقال: هي لك.
وهنا أقبل السائق الذي رأى تسابق والده والرجل الذي أساء اليه في الاحسان وضرب المثل في المروءة، فانكب على الضيف يقبل رأسه وجبينه.
ويأبى الله إلا أن يجزي الصبور الحليم في الدنيا قبل الآخرة، فباع المركبة بضعف الثمن الذي دفعه، وعاد إلى بيته قرير العين، فقد طابت نفسه، وهدأ باله، بل شعر أن صداقة انعقدت بينه وبين هذه الأسرة.
إن كثيراً من مشكلاتنا تبدأ صغيرة، ولكن ردود الأفعال، والانتصار للنفس يفاقمها، وقديماً قيل: النار من مستصغر الشرر. وكأني بهذا الرجل الذي انتصر العقل لديه على العاطفة، ونوازع الخير على دواعي الشر استحضر قول الله عز وجل: (والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين)، وموقف الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه يوم صرع عمرو بن عبد ود، وهمّ بجز عنقه، فبصق عمرو بوجه الامام، فتمهل أبو الحسن، حتى إذا اطمأن إلى أن غضبه لنفسه قد زال عاد ثانية فأجهز عليه انتصاراً لدينه، وليس غضباً لنفسه. فهل يدرك الآباء والمربون والموجهون والإعلاميون والقائمون على المؤسسات الثقافية والشبابية أن تربية الناشئة على القيم الإيمانية، وتعليق قلوبهم بخالقها، وانتظار الجزاء الأوفى منه سبحانه، خير سبيل للتعامل مع سفه السفهاء، وأخطاء المخطئين، فنجنب مجتمعنا ويلات وأخطاراً، ونعالج مشكلاتنا بأيسر السبل وأسهلها؟