الأمن الثقافي


للثقافة أهميّتها البالغة في حياة الشعوب، فهي عمادُ وحدة الشعب وتماسكه وتلاحمه والحبلُ الواصل بين قلوب الناس وبين عقولهم وأفكارهم، فإذا ما تعرّض هذا الحبل للتلف في أيّ مكان منه، فإنّه يعرّض العلاقات الاجتماعية للتفكّك، ويهدّد المجتمع بالتشظي والتنازع والتناحر والتمزّق. ومن هنا فإنّ الحفاظ على الثقافة بوصفها الحبل الواصل بين أبناء المجتمع تغدو مسؤولية وطنيّة مقدّسة، وهو ما يعرف بالأمن الثقافي الذي لا يقلّ أهمية عن الأمن السياسي والاقتصادي، بل إنّ الأمن الثقافي هو أحد أهمّ الضمانات للأمن السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وبالتالي الأمن الوطني.


ولئن كانت مسؤولية تحقيق الأمن الثقافي تقع على عاتق أفراد المجتمع ومؤسساته كافّة، لأنّه فرض عين، إلاّ أن المسؤولية الكبرى فيه تقع على عاتق مؤسسات الدولة وسياساتها، وأخصّ هنا المؤسسات التربويّة (وزارة التربيّة والتعليم ووزارة التعليم العالي) والثقافية (وزارة الثقافة والهيئات الثقافية)، والدينية (وزارة الأوقاف والمساجد والكنائس) والمؤسسات الإعلامية (الإعلام المرئي والمسموع والمقروء) والمؤسسات الشبابية والاجتماعية والأسرة. وفي هذا السياق فإنني أدعو إلى إيلاء أهميّة خاصّة للأسرة وتوجيهها عبر جميع وسائل التواصل إلى أصول التربيّة السليمة التي تجنب الناشئة أيّ انحرافات أخلاقية وسلوكية مستقبلية وتحصّنهم ضدّ أيّ اختراقات ثقافية في حاضرهم وفي مستقبل أيامهم.

إنّ الأمن الثقافي هو المسؤول عن حماية قيم المجتمع ومبادئه وعقائده ولغته وتقاليده وعاداته وسائر العناصر التي تتشكّل منها هويّته، وهو المسؤول عن حماية الأجيال من الاختراقات الفكريّة الهدّامة أو الدموية.

إنّ زعزعة الأمن الثقافي قد يكون في كثير من الأحيان هدفاً يسعى إليه أعداءُ الأمّة بهدف إضعافها وتمزيقها وتجريدها عمّا يجمعها ويوحّدها.

وتزداد الأخطار على الأمن الثقافي باستمرار اتّساع هذا الفضاء المفتوح عبر وسائل التواصل الاجتماعي والذي يتطلب من الأهل مزيداً من التوجيه والرعاية والمتابعة والتحصين لأبنائهم ولا سيّما في المراحل العمرية المبكرة.

وليس المقصود بالسعي إلى تحقيق الأمن الثقافي أن نوصد الأبواب في وجه طوفان الثقافات المتدفق عبر وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة، أو تقييد حريّة الأجيال، بل المطلوب أن نحسن اختيار ما ينفعنا ممّا تشتمل عليه هذه الثقافات، وتجنب ما يضرّنا ويلحق الأذى بنا، ويحول دون الوقوع في فخّ من يستهدف ثقافتنا وقيمنا وعقيدتنا ولغتنا وسائر عوامل وحدتنا وتماسكنا.