وصية أوباما

أخبار البلد - 

ما توقّعناه قبل تسعة شهور تقريباً، في ما يخص نظرة باراك أوباما إلى الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، حصل قبل بضعة أيام وبطريقة شبه حرفية. ففي مقالة في «الحياة» بتاريخ 13 آذار (مارس) الماضي، استهل صاحب هذه السطور مقاربته لزيارة جو بايدن لإسرائيل بما يلي: «هناك ما يجيز الظن بأن الرئيس الأميركي باراك أوباما لن ينهي ولايته الثانية والأخيرة من دون قرع الجرس في ما يخص المسألة الفلسطينية والنزاع الإسرائيلي - الفلسطيني. غير أن قرع الجرس سيبقى حمّال أوجه وتأويلات مختلفة ومتضاربة. سيكون ذلك نوعاً من الغموض البناء حتى إشعار آخر».

 

 

التذكير بهذا التكهّن لا يهدف إلى امتداح الذات وتسويق النرجسية في زمن الأنوات المنتفخة والمتورمة فردياً وجماعياً. فهذا لا يتوافق أصلاً مع ذوي النرجسيات الضعيفة مثلي. يهدف هذا التذكير، بتواضع، إلى إلقاء الضوء على مكانة الحدس في حقل المعرفة. وقد سبق لباحثين في علم اجتماع المعرفة، مثل ماكس فيبر وكارل مانهايم، أن أشاروا إلى هذه المكانة. ومن يتذكر مقاربة الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش لاتفاق أوسلو وتبعاته، يتعرف إلى قوة الحدس المستند، في تجربة درويش وكتاباته الشعرية والسياسية، إلى كثافة المتابعة وإلى معاينة مشحونة بحس الاستقلال النقدي لهذا السيل الأعمى الحامل في طياته وأمواجه مصائر الأفراد والمجتمعات، والذي يطلق عليه في قوالب معرفية مختلفة اسم التاريخ.

 

 

الحدس نفسه يقودنا إلى الظن بأن التوقيت الذي اختاره أوباما لقرع الجرس يجعل موقفه أقرب إلى الوصية من أي شيء آخر. يمكننا أن نضع جانباً المناورات والتكتيكات الديبلوماسية التي سبقت تصويت مجلس الأمن على القرار غير الملزم بوقف الاستيطان الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة. فالأساسي يكمن في رفض أوباما استخدام الفيتو والاكتفاء بالامتناع عن التصويت على قرار يدين السياسة الاستيطانية الإسرائيلية المتواصلة، التي تجعل من المستحيل تطبيق حل الدولتين. أن يفعل أوباما ذلك قبل شهر فقط من مغادرته البيت الأبيض وتسليم مقاليده إلى خلفه ترامب، ففي الأمر ما من شأنه أن يطيّر صواب نتانياهو، إذا كان لديه صواب. وصف هذا الأخير القرار الدولي بأنه «معيب» واستدعى سفراء الدول التي صوتت مع القرار، ولم تخل مخاطبته هؤلاء من التهديد والوعيد. التوضيحات التي قدمها وزير الخارجية الأميركي جون كيري على مدى ساعة ونصف الساعة، لم تلق توصيفات مختلفة. وللمزيد من العنجهية، صدرت عن وزراء وازنين في حكومة نتانياهو تصريحات من الصنف ذاته حيال مؤتمر السلام الذي يفترض أن تستضيفه باريس بعد أسبوعين، بل ذهب بعضهم إلى تشبيه هذا المؤتمر بقضية دريفوس.

 

 

لم يعد لدى أوباما ووزير خارجيته ما يخسرانه في سوق المناورات السياسية داخل الكونغرس وخارجه. الفرصة مناسبة لتقديم رؤية أوباما بوضوح نادر، وبغض النظر عن رأينا ورأي غيرنا فيها. توضيحات كيري عكست هذه الرؤية التي يصعب على كل ذي عقل أن يجد فيها خيانة أو انتهاكاً للعلاقة الوثيقة بين الولايات المتحدة والدولة العبرية. ما قاله كيري هو أضعف الإيمان. لا يمكن إسرائيل أن تكون يهودية وديموقراطية في آن، ومواصلة الاستيطان تجازف بمستقبل إسرائيل وتعرّض أمنها للخطر لأن التوسع الاستيطاني يعيق حل الدولتين ويقود إلى دولة واحدة واحتلال أبدي. لا نعلم كيف يمكن العثور في هذا الكلام على مجال للشك في حرص إدارة أوباما على أمن إسرائيل ومستقبلها وعلى مصالح الدولة الأميركية أيضاً. هو هذا الحرص بالذات ما يقود نتانياهو وأمثاله من الأولاد المدلّلين إلى الاهتياج والصياح الاتهامي لأنه يلقي على سياساتهم شبهة التهوّر والاعتداد بالنفس. اتهام كيري بالانحياز وبأنه «مهووس» بقضية المستوطنات هو غيض من فيض اتهامات جاهزة وغب الطلب. فوق ذلك، خالف أوباما وكيري بعض الشيء تقليداً معهوداً، وهو أن يفصح الرؤساء الأميركيون عن قدر من الرشاد بعد انقضاء عهدهم إلى الحد الذي يجعلنا أحياناً نفضّل انتخابهم بعد تقاعدهم أو أن يكون التقاعد مبكراً جداً.

 

 

في الوجوه المتعددة لوصية أوباما، ثمة بالتأكيد وجه شكسبيري يتعلق بتجربته الشخصية كرئيس للقوة الأعظم في العالم. فهو تلقى من الحليف المفترض والمتزايد الدلال إهانات لا تطاول شخصه بالضرورة بل موقعه كرئيس. فلنتذكر استضافة الكونغرس نتانياهو من دون موافقة أوباما وتصفيق ممثلي الأمة الأميركية ثلاثين مرة لخطاب ممجوج لمدة نصف ساعة، أي بمعدل تصفيق حار كل دقيقة. حصلت هذه النكاية على خلفية توتر بين الرجلين وغابت بالمناسبة الوطنية الأميركية العتيدة، وغاب معها الحد بين الداخل والخارج والخاص والعام. بدا نتانياهو في الكونغرس أكثر من ضيف عزيز. إنه في بيته وبين أهله، فيما بدا رئيس الأمة في هذه اللحظة غير المسبوقة ضيفاً أو زائراً عابراً للبيت الأبيض.

 

 

الحدس نفسه يقودنا أيضاً إلى الاعتقاد بأن وصية أوباما عبارة عن طلقات في اتجاهات مختلفة. فهي تخاطب أطرافاً ولاعبين عديدين من بينهم العرب. فعزل الفلسطينيين وتحطيم أملهم بالتحقق السياسي لا يتمان من دون العجز العربي عن التحول إلى فاعل تاريخي ذي مشروع ورؤية استراتيجيين في بيئته الإقليمية في الأقل. فالسياسة الإسرائيلية منذ اتفاق كامب ديفيد قامت على رفض تقديم أي تنازل، وليس هناك أي تهديد حقيقي يستدعي بعض التنازل. من مفارقات الأمور ربما أن تنطوي وصية أوباما على تلميح من هذا النوع. غير أن الوجه الأبرز فيها هو زرع الألغام في الحقل الذي سيتبختر فيه بعد ثلاثة أسابيع دونالد ترامب. وقد أضاف أوباما ألغاماً أخرى بعد قراره طرد خمسة وثلاثين ديبلوماسياً روسياً ضمن سلسلة من العقوبات رداً على ما وصف بالتدخل الروسي في الانتخابات الأميركية. ومعروف أن ترامب يتطلع إلى علاقات جيدة مع روسيا البوتينية، لكن في إطار استراتيجية تطمح إلى مناكفة الصين وضرب الاتفاق النووي مع إيران. الملاكم الأبيض الذي استعرض طوال شهور فنون الإثارة والبذاءة الخطابيتين، لم يتحمل أن تعامل إسرائيل بازدراء وقلة احترام، وطلب منها أن تبقى قوية لشهر واحد فقط، كأن النيران تحاصرها، في انتظار الداعية المخلص وفرسان الهيكل. الله يستر.