تسعيرة للفساد

أخبار البلد -

أن يكلمني مستثمر شاكياً اضطراره إلى دفع عشرات آلاف الدنانير، رشىً لموظفين حكوميين يحصلون على رواتبهم منا نحن المواطنين دافعي الضرائب، وإلا تعطلت أعماله إن هو رفض الابتزاز من هؤلاء الموظفين؛ فمعنى ذلك أننا وصلنا إلى أسفل سافلين.

المستثمر طلب مني الكتابة عن القضية. فأجبته أننا كتبنا كثيراً عنها من دون فائدة، بل العكس؛ إذ صار المبدأ يترسخ، والعدوى تنتقل للموظفين الآخرين، فلا يكاد يستثنى منهم إلا من رحم ربي، ممن ما يزال ممسكاً على أخلاقه وقيمه.
هكذا، تكون مصيبة وكارثة أن نجتمع، مسؤولين وإعلاميين ونوابا، في جلسة نسرد فيها لبعضنا بعضاً قصصاً عن تسعيرة الفساد التي باتت معروفة. وعندما نتباحث في المبدأ كأنه أمر عادي، يكون لنا تخيل حجم الخراب الذي لحق بكل شيء، وفي المقدمة قيمنا التي تكسرت على واقع صار يقبل الرشوة ويتقبلها، مبررا ذلك بحجة تسهيل المهمات.
"إما أن تدفع، أو تنتظر لأشهر وربما سنوات"؛ هذه هي القاعدة! فإذا كنت ترغب في تسيير أعمالك ومعاملاتك بيسر وسهولة، فعليك أن تدفع. والأمر لم يعد سراً، وقد كُتبت على الصفحة الأخيرة من "الغد" العديد من المقالات حول ذلك، لكن من دون أن نسمع عن خطوة رسمية واحدة للحد من تفشي هذه الآفة، وفي تعبير عن بلوغ الأمر درجة عجز المسؤولين عن الحد منها.

وقد سمعت وزيراً معنياً بأكثر من مؤسسة تشهد هذه الممارسات المريضة، يقول إنه لا توجد طريقة للحد من هذا المرض. وهو ما يضعنا أمام سؤال أخلاقي وقانوني بشأن ترك الرشوة تنخر مؤسساتنا. فإذا كان الوزير يقف عاجزا عن التصدي للظاهرة، فمن يبقى ليفعل ذلك؟! وماذا يقول المستثمر أو المواطن المغلوب على أمره؟!
ولأن الأمر لم يعد سراً، والمشكلة تعصف بكل المؤسسات تقريباً التي ترتبط بمعاملات مالية، فقد صارت هناك تسعيرة للرشوة؛ عفوا أقصد "الخدمة!" التي يقدمها الموظف للمراجع.


حالة الإفلاس والاستسلام الرسميين أمام مافيات الرشى تثير الغثيان. وتؤكد أن كثيراً من مسؤولينا غير أكفاء وليسوا أصحاب قرار، ابتداء، لإدارة المؤسسات المعنية؛ كما أنهم عاجزون أمام ممارسات غير قانونية، تقضي على ما تبقى من هيبة بعض المؤسسات.
لكن لذلك، لم يعد السكوت عن القصة ممكناً؛ لأنها -وإن كان المسؤولون لا يدرون- أحد أسباب فقدان الثقة بين الناس والحكومة. إذ كيف يدفع المواطن من الضرائب التي يؤديها راتب الموظف، ثم يضطر لرشوته حتى يقوم بعمله؟! أي عطب هذا؟!

في زمن مضى، كنا نشكو من الواسطة كمرض بيروقراطي يهدر العدالة ويثير غضب الناس، وهي كذلك فعلاً. لكننا اليوم تجاوزنا ذلك بمراحل؛ إذ لستَ بحاجة لواسطة حتى تسيّر أعمالك، بل تحتاج حفنة أو أكثر من الدنانير.
أول الحلول لبعض ما نواجهه اليوم، هو محاربة الفساد الصغير، وفضح الأمر بدلا من "الطبطبة"؛ فنؤكد للمواطن فعلا أن الأردن دولة قانون ومؤسسات، حيث جوهر العمل العام هو خدمة المواطن، وليس ابتزازه برشى صغيرة وكبيرة.