إرهاب مولود من إرهاب

لم يكن متوقعاً أن تصمد مدينة حلب أكثر مما صمدت أمام الترسانة العسكرية الروسية والممارسات الوحشية للنظام السوري وحلفائه الإيرانيين والميليشيات التابعة لهم. كما لن تتمكن سائر المدن السورية التي تقع خارج سلطة النظام، من الصمود كثيراً، فمعركة حلب بدأت تؤشر فعلياً الى هزائم ستطاول تنظيمات المعارضة المسلّحة. كما لم يكن مستهجناً وخارج التوقعات، أن يُغتال السفير الروسي في تركيا، ويعلن القاتل جهاراً أنه ينتقم للشعب السوري مما جرى في حلب. الحدثان يحملان طابعاً مشتركاً هو الإرهاب، فالحرب على سورية هي حرب إرهابية على الشعب السوري، واغتيال السفير هو أيضاً عمل إرهابي يأتي في امتداد ممارسات إرهابية تمارسها التنظيمات المسلحة.

إن أصل اندلاع الإرهاب في سورية هو النظام الاستبدادي السوري الذي رفض منذ بداية الانتفاضة معالجة الأحداث من خلال تسوية سياسية تطاول بعض الإصلاحات. ولأشهر عديدة، كان الحراك سلمياً. لكن النظام بادر الى استخدام العنف ضد المتظاهرين وتدرج في استخدام وسائله الى أن وصل الى استخدام الطيران وكل الترسانة السورية الثقيلة. اتبع النظام خطوته هذه بإطلاق السجناء الإرهابيين ودفعهم الى احتلال مناطق وتحويل مهمتهم الى محاربة المعارضة. لا يستطيع أي طرف التحكم في القرار عندما يفلت زمام الأمور من يديه. هكذا انطلق الإرهاب والإرهاب المضاد في سورية.

عامل آخر سعّر حجم الإرهاب يتصل بما يمكن تسميته مطامع استعمارية من أميركا وروسيا وتركيا وإيران. لعب كل طرف دوراً في تصعيد الإرهاب من خلال نقل المقاتلين الى سورية وتوظيف قتالهم لكسب مناطق نفوذ في البلد. استفحل الإرهاب مع لجوء النظامين الإيراني والسوري الى توظيف الصراع المذهبي في الحرب، واستحضار كل الوسائل الوحشية التي عرفها التاريخ. خلال سنوات، أبدعت التنظيمات الميليشياوية التابعة لإيران، من عراقية ولبنانية، في تنفيذ أعمال وحشية من قتل وتدمير وتهجير للسكان، كما أبدع النظام في همجية لم يعرفها التاريخ الإنساني تسببت في تهجير نصف سكان سورية. في المقابل، مارست التنظيمات المسلحة في سورية إرهاباً مماثلاً، بدأ بين الفصائل المفترض أنها تقاتل النظام، وليتوسّع ضد الشعب السوري في المناطق التي سيطرت هذه التنظيمات عليها وأقامت حكمها الذاتي فيها. لذا ليس من قبيل المبالغة المساواة في الإرهاب والهمجية بين النظام والقوى المتحالفة معه، وبين التنظيمات الدواعشية وأخواتها. وبالعودة الى هزيمة حلب، نشهد اليوم احتفالية من معسكر يصنف نفسه في خانة الممانعة التي لم يعد يعرف أحد في وجه من تقوم. حددت «الممانعة» عدوها سابقاً بالولايات المتحدة وإسرائيل، فيما عملت طوال هذه السنوات تحت عباءة أميركية كانت السبب في ما يسمى بانتصاراتها، كما عملت تحت عباءة إسرائيلية في شكل مستتر، خصوصاً أن إسرائيل كانت أحد العناصر المقررة في بقاء النظام السوري. أما القوى الأخرى التي تعتبر نفسها مسؤولة عن الانتصار، فيجب القول أن روسيا الطامحة الى موقع في المياه الدافئة على المتوسط، كانت عنصر الحسم في المعركة. يبقى أن تركيا أظهرت أن جل ما تريده هو منطقة نفوذ على حساب الأراضي السورية، فيما ترغب إيران من التمدد السياسي والمذهبي في جعل المنطقة العربية تقع في مداها الحيوي. إن هزيمة حلب هزيمة للشعب السوري، وهزيمة للمجتمعات العربية ولحلمها بأن تفتح الانتفاضات العربية طريقاً للتطور الديموقراطي.

المنتصر الوحيد في سورية وفي معركة حلب هو «الداعشية» بفكرها ونظرياتها وممارساتها. و«الداعشية» ليست فقط تلك التنظيمات التي تمارس الإرهاب، فالكل داعشي. أميركا وروسيا وتركيا وإيران والميليشيات التابعة لها كلها أظهرت «داعشية» في فكرها وممارستها، فيما أظهرت سائر التنظيمات وحشية مقابلة. «الداعشية» بهذا المعنى هي الاسم الحركي لانفجار المجتمعات العربية ولتوسل العنف في حل القضايا الخلافية ولاستحضار الخارج، وجعله متحكماً بشؤون الشعوب العربية، كما هي من تجليات الصراع المذهبي في الإسلام، على ما يجري الآن في سورية والعراق وغيرهما. هذه الداعشية لن يتوقع لها أن يتقلص نفوذها مستقبلاً، فلا الدول الإرهابية ستكف عن ممارسة إرهابها، ولا التنظيمات المسلحة سيمكن القضاء عليها نهائياً. فحادثة اغتيال السفير الروسي ستتجدد في أشكال مختلفة في أكثر من مكان. والعمل الإرهابي سيتوسع، وهو لا يحتاج إلا الى تقنيات بسيطة.