مسؤولية إعلام الشفافية في مواجهة بؤر الفساد

 

 الشفافية في لغة وأرقام موازنة الدولة هذا العام كانت القاسم المشترك في أحاديث مجالس السعوديين هذا الأسبوع، وجاءت امتداداً لما سبقها من حوارات ونقاشات وأسئلة وتعليقات أثارتها تصريحات وتعليقات وتغريدات بعض الاقتصاديين والإعلاميين، الذين استمعوا إلى ولي ولي العهد رئيس مجلس الاقتصاد والتنمية الأمير محمد بن سلمان، في لقاء أجمعوا على أنه لم تنقصه الصراحة والشفافية والرغبة في أن يعرف الجميع توجه الدولة وفق رؤية 2030 وما يترتب عليها من إجراءات وما يتوقع من ثمراتها.

 

 

وحظي حديث الأمير، للاقتصاديين والإعلاميين الذين التقاهم، باهتمام المجالس بشكل لافت في جدة، وأظن أن بقية مدن المملكة انشغلت به هي الأخرى، كما انشغلت به مجالس «عروس البحر». كان الجميع يريد أن يعرف ماذا دار في هذا اللقاء، وإلى أي مدى كان المشاركون واضحين صريحين في طرح الأسئلة الجوهرية حول ما يهم المواطن ومستقبل الوطن، وماذا يدور من استعدادات وتغييرات في أروقة الجهاز التنفيذي المسؤول عن تنفيذ الرؤية، وكان المتسائلون، في تلك المجالس، شغوفين بسماع ماذا قال الأمير، حريصين على معرفة كيف يفكر الرجل الذي يدفع بعجلة التغيير على جسر الانتقال من عصر الاعتماد على المصدر الواحد (النفط) إلى آفاق تنويع مصادر الدخل الوطني، وإلى أي مدى هو مطمئن إلى توافر الأدوات والآليات القادرة على تنفيذ رؤية الوطن 2030؟ وهل ما سمعه الاقتصاديون والإعلاميون من ولي ولي العهد يدعو للاطمئنان على أن مرحلة الانتقال لن تكون «عبئاً» على المواطن، وأن الدولة لديها من الترتيبات والإجراءات ما يضمن استمرار مسيرة التنمية وتفعيل الخدمات المؤدية إلى تحسين حياة المواطنين ومن يعيش، بصورة قانونية، على تراب الوطن من غير السعوديين.

 

 

والذين استمعت إليهم، في المجالس، والذين قرأت تعليقاتهم وتغريداتهم أجمعوا على إعجابهم بسعة إحاطة الأمير بمحاور برنامج التحول وعمق معرفته بما يتحدث عنه واطلاعه على تفاصيل «خريطة» الرؤية وما يصاحبها، بحكم طبيعة المراحل الانتقالية، من عوامل لا تسلم من بعض المنغصات الوقتية وتقديره لما تتطلبه تلك المراحل من ضرورة توفير المعرفة والوسائل المساعدة على الفهم وإيصال المعلومات بصورة واضحة دقيقة إلى المواطنين ليكونوا جزءاً أصيلاً من أسباب إنجاح برامج الرؤية.

 

 

والحقيقة أن ما نقله الاقتصاديون والإعلاميون، في المجالس، عن إحاطة الأمير بتفاصيل التحول الذي يقود قافلته، سبق أن سمعته مباشرة مرتين، بحضور مجموعة من الزملاء رؤساء تحرير الصحف والكتاب، وفي المرتين كان الجميع يخرجون من مجلس الأمير فتمتد حواراتهم لساعات حول صراحته في نقد مظاهر الخلل في أكثر من مجال، وتقييمه لمستوى الجهاز التنفيذي وعدم تردده في الاعتراف بأن الفساد «مشكلة حقيقية» تواجه الجهود المبذولة لإنجاز خطة التحول الوطني، لكن حماسته وروح الإصرار في حديثه تولد تفاؤلاً واطمئناناً في عقول ومشاعر مستمعيه.

 

 

ولا شك في أن حديث ولي ولي العهد عن ضرورة مكافحة الفساد يبعث الأمل ويدفع كل مواطن ليكون عنصراً في «مركب» مكافحة هذا «الداء» الشرس المتلون القادر على التخفي في سراديب ودهاليز المصالح الشخصية بأكثر من لون واسم ولقب. وضرورة مكافحة الفساد يجمع عليها الناس، في مجالسهم وأحاديثهم وتعليقاتهم، وتشكل موضوعاً مغرياً للمقالات والمعلقين في كل وسائل الإعلام، لكن هذا «الإجماع القولي» ينقصه الكثير من الأدوات والمبادرات، تنقله من مستوى أحاديث المجالس إلى ميدان التطبيق العملي في الأجهزة التنفيذية.

 

 

والدولة أعلنت مكافحتها للفساد وأنشأت هيئة وطنية لهذا الهدف السامي ومكنتها من متابعة وملاحقة الفاسدين وتتبع شبكاتهم وكشف حيلهم وأساليبهم، وليس من الظلم للهيئة القول إن «منجزاتها» أقل من المأمول، من دون الدخول في تفاصيل الأسباب التي ربما يعرفها القائمون عليها ولا يفصحون عنها، ولكن وجود الهيئة يظل «ضرورة» تبقي راية مكافحة الفساد مرفوعة، تدعو الكل إلى الالتفاف حولها ومساعدتها على تجاوز ما يعترضها من عقبات، وما أشرت إليه من احتفاء الناس بشفافية لغة وأرقام موازنة هذا العام تدعو إلى المزيد من تحفيز القدرات وتشجيع المؤثرين لتكاتف الجهود حتى تقوى جبهة محاربة الفساد، وفي مقدمة المطالبين بالدخول الفاعل في هذه المعركة الإعلام وأهله، فهم مطالبون بمساعدة الناس على الوصول إلى المعلومات الدقيقة وانتهاج التحليل الموضوعي الذي يساعد المتلقي على الفهم، مع البعد عن «التهويل أو الانتقاص»، فالمبالغات التي يقع فيها البعض تؤدي «مفعولاً عكسياً» على صورة المنجزات، كما أن «الانتقاص» منها أو التقليل من شأنها يضعف أثرها ويعطي رسائل خاطئة لا تسهم في تكوين رأي موضوعي حول القضايا بما يضع الأشياء في نصابها.

 

 

وبعض الإعلاميين يعتقد أنه بتضخيم المنجزات والثناء المبالغ فيه على المسؤولين وقراراتهم وإعطائها من الأوصاف ما يقترب من «العصمة»، يخدم أهداف التنمية، والحقيقة أن هذا الخطاب «غير الموضوعي» يشوه، من حيث لا يدري، المنجزات الحقيقية ويشوه صورتها في مشاعر المواطن ويسيء للمسؤول الذي أراد خدمته أو التقرب منه. والإعلام أحد أدوات «الضبط الاجتماعي» التي ترشد العلاقة بين المواطنين والأجهزة التنفيذية، وهو «أداة» فاعلة في معركة الحرب على الفساد بكل أنواعه، ولديه من الإمكانات والوسائل ما يساعده على مساندة جهود هيئة مكافحة الفساد، ولا ينبغي أن يقتصر دوره على نشر قراراتها وبياناتها وصور صغار «صغار المفسدين»، على رغم أهمية ذلك، بل يمكنه أن يكون «رأس حربة» في هذه المعركة، بتحقيقاته المهنية وتتبعه الدقيق لجذور الفساد والإمساك بخيوط الشبهات وتتبع آثار المفسدين في «جحورهم» وتسليط الضوء على مكائدهم وحيلهم، حتى تتبين ملامحهم للجهات الرسمية المسؤولة عن ملاحقتهم قضائياً.

 

 

وإذا لعب الإعلام هذا الدور الوطني يكون قد ساعد المسؤولين على أداء مهامهم التي يحضهم عليها ولي الأمر في كل المناسبات.