أنت نصفي الآخر !



عبارة شهيرة اخترعتها آلية صناعة الدراما والأفلام السنيمائية منتصف القرن الفائت، مستندة بالطبع على أدب وروايات تلك الحقبة، لم تتعرض للتنكيل وإعادة القراءة والتحليل، كما حصل ويحصل مع كثير من المفاهيم الاجتماعية والإنسانية التي تغيرت النظرة لها أو حتى انتفت تماما، بعد بلوغ الوعي العاطفي والعقلي إلى منتهيات وأنصاف منتهيات، لم تكن متوقعة بالمرة.
فالركون إلى ذلك التعبير المريح في جزيئاته وتفاصيله أثبت جاهزيته، في معظم المواقف التي يمكن أن يتعرض إليها شخص ما مع الآخر، أو يعرض نفسه لها مع نفسه حتى.
لا شك أن تفسير وجود إنسان يملأ مكان النصف الفارغ من حياة إنسان آخر، هو أنسب صورة للسعي نحو الكمال، الذي هو الاتزان بكلمة أخرى، كما يصفه محللون نفسيون واختصاصيون اجتماعيون. لكن الغريب، أنه وعلى الرغم من تفشي حالة التوحد الاجتماعي الملموس، واتنشار ظاهرة الحياة من خلف الشاشات، مع تراجع ملحوظ إن لم يكن تردي شكل العلاقات الملموسة واقعيا، ظلت فكرة البحث عن النصف الآخر، متجلية متمكنة متوائمة مع عناصر الانقلابات التكنولوجية المفترض أنها مفاجِئة، للأحاسيس والاحتياجات. وهذا أمر يستحق التوقف قليلا خصوصا عند أصحاب رؤى الاستقلالية التامة من أي آخر، كوسيلة تبرر الاستحقاقات المرجوة، مثل النجاح والتميز والانطلاق بدون نظرة واحدة إلى الوراء، تودي بأصحابها إلى مصير الغابرين.
السؤال المحير الذي كان يقضّ مضجع مؤلفي المسرحيات العالمية، والأغنيات العاطفية والروايات، أنه كيف يجد الواحد نصفه الآخر ضمن مجموع تتشابك فيه الصفات، وتتقاطع الألوان والأشكال بشكل محير؟ وكانت الإجابة حينذاك، أو في عصر الطيبين كما يقال، أن التجربة خير برهان، وأي فشل يودي بها، يحتاج إلى استراحة قصيرة، ومن ثم البدء من جديد.
إنما اليوم، من حيث المبدأ لم يعد السؤال محيرا، وإن كان يحتفظ بمكانته وقوته. لكنه أخذ صيغة جديدة تتلاءم مع أنانية السائلين والباحثين، المجردين من عاطفة وحساسية الزمن الجميل.
لقد بات هم الإنسان في أيامنا هذه هو كيف يصنع نصفه الآخر، من بعض العناصر المتوفرة أو لنقل المنتقاة بعناية ولكنها للأسف غير مكتملة، للتركيبة النهائية؟ ما الطريقة التي يمكن بها للباحث عن نصفه الآخر، لتطويع صفات أحبها الأول في الثاني، ولكنها لا تكفي وحدها لتأطير نصف الدائرة بلا اعوجاج أو تقطيع؟
المصيبة أنه كلما كان أحد النصفين ضعيفا في أحاسيسه، وارثا لعاطفة الجيل المتزن العتيق، أصبح أكثر طواعية في التشكل والانقياد ومن ثم، الاستعباد في حقيقة الأمر في سبيل إنجاح نظرية النصف والنصف الآخر. في حين كلما كان النصف الأقوى مجردا من المعاذير والشروحات والقوانين البشرية غير القائمة على المعادلات الفيزيائية الناشفة، أصبح استقواؤه على نصفه الآخر ممتدا متعمقا مؤلما، إلى حد البشاعة!
المضحك أن علاقة غير سوية كتلك المرتسمة بالقلم والمسطرة، التابعة كلية لتشريعات وأعراف الحياة المنفتحة/المنغلقة اجتماعيا بسبب تكنولوجيا العالم الكامل، كما يبدو لأصحابها، تلك العلاقة تمل من نفسها سريعا، أو لنقل يمل المستقوي فيها بسرعة، لأنه سيكتشف بأن نصفه الآخر لم يعد آخر؛ بل جزءا منه تشكل بشكله، وتطبع بأطباعه وصار هو أو هي، على نحو عجيب. فيقول لنفسه: لا! هذا ليس نصفي الذي سيكملني ويريح فراغي الناقص!
تعرفون سر نجاح خدعة النصف الآخر زمان ما هو؟ أعتقد أن كمية التسامح والفهم والعفو عند المقدرة، والركون للعشرة الفيزيائية والكيميائية معا، هي السبب و ليس شيئا آخر. وتعرفون لم هي أصلا خدعة؟ لأن الانسان خلق في أكمل صورة، شكلا وموضوعا. قيمته غير مشروطة باستكمال البحث عن نصف آخر، يعينه على رحلة الحياة، قيمته في ثقته بنفسه وبقدرته على صناعة حياته وسعادته. وأي شخص يدخل معه معترك الحياة، أهلا به شريكا رفيقا سندا ناصحا جميلا، ليوسع الكادر، ليس ليكمل صورة ناقصة!