منسف في مجلس الأمن



للمنسف مكانة خاصة لدى الأردنيين والفلسطينيين، إذ تعلو مكانته منزلة أي من الأطباق الشهية الأـخرى، بإجماع الكبار والصغار ومن سائر الفئات والشرائح، إلى حد ارتقت فيه هذه الوجبة الدسمة التي عادة ما تقوم بإعدادها العائلات الممتدة أيام الجمع وفي المناسبات، إلى مقام الأكلة الوطنية المفتخرة. إذ بات الرسميون والوجهاء والآباء، يولمون على شرف ضيوفهم الأعزاء وذويهم، وجبة المنسف دون غيره، تدليلاً على عمق المودة والتكريم.
بالنسبة لنا، لا يحتاج المنسف إلى التعريف، فهو يتميز بكونه وجبة كبيرة وغنية، تؤكل على الأغلب في إطار جماعة أوسع نطاقاً من حدود الأسرة الصغيرة، يكتسي تناولها طابعاً احتفالياً غامراً بالفرح وفائضاً بالألفة والمودة الخالصة. وتنطوي هذه الوجبة في حد ذاتها على معنى الكرم بسخاء، وروح الجماعة ومغزى الصداقة والتشاركية. وفوق ذلك، يؤدي المنسف إلى تعزيز الصلات بين الأصول والفروع، وإضفاء الهيبة والأهمية والسمعة الحسنة على شخصية من يكثر من تكرار هذه الخصلة المحمودة.
وقد تحول المنسف في الآونة الأخيرة إلى مظهر من مظاهر الوجاهة الاجتماعية، ورمزاً من رموز القوة والتمكن والصدارة ورافعة للشعبية، ولا سيما إبان الحملات الانتخابية، بل وصار لازمة من لوازم حث المدعوين على المشاركة وحضور الندوات الأدبية والعلمية، كون وجبة الغداء مسك ختام مثل هذه الفعاليات الثقافية.
مناسبة الحديث عن المنسف يتعلق، هذه المرة، بنسق سياسي هو الأول من نوعه، جرت وقائعه يوم الجمعة أيضاً، داخل قاعة مجلس الأمن الدولي تحت الأضواء الكاشفة، حين صوت الأعضاء الأربعة عشر، من دون اعتراض أميركي، على قرار يلزم إسرائيل بوقف الاستيطان فوراً، باعتباره عملاً غير شرعي وغير قانوني، بموجب القانون الدولي، وكونه يشكل عقبة رئيسة أمام تحقيق السلام على أساس حل الدولتين.
لكن السؤال هو: كيف تحول هذا القرار الدولي ضد الاستيطان، وهو الأول من نوعه منذ 36 سنة، إلى وليمة كبرى، عمادها المنسف الفاتح للشهية؟
كما بات معروفاً للناس كافة، تقدمت أربع دول من الأعضاء غير الدائمين في مجلس الأمن، بنفس مشروع القرار الذي تخلت عنه مصر في آخر لحظة، وهي العضو الممثل للمجموعة العربية في المجلس. ودعت تلك الدول إلى عقد الجلسة المقررة في موعدها المحدد، وطرحت المشروع على التصويت. ثم يمر المشروع من دون "فيتو" أميركي، وينتهي الأمر باعتماد القرار وسط عاصفة تصفيق مدوية، تحدث للمرة الأولى داخل رواق تلك القاعة المستديرة.
وفيما كانت إسرائيل تستشيط غضباً، وتخرج عن طورها دفعة واحدة، كان نشطاء فلسطينيون على شبكات التواصل يغمرون الشبكة بتعبيرات ملؤها الاستحسان والترحيب بهذا القرار الذي جاء في لحظة انصراف المجتمع الدولي عن اهتمامه بالقضية، التي فقدت في زمن الحرائق العربية، جلّ ما كانت تحظى به من متابعة حثيثة، وهو ما أجمع المحتفون بالقرار على أنه نصر سياسي كانوا في أمس الحاجة إلى رؤيته في هذه المرحلة العصيبة.
وسط هذه الحفاوة المبررة سياسياً ومعنوياً، التقط نشيط نابه على "فيسبوك"، لديه قوة الملاحظة وحس الدعابة اللاذعة، أمراً غاب عن الآخرين، وهو أن الدول الأربع التي تبنت مشروع القرار ضد الاستيطان (ماليزيا، ونيوزيلندا، والسنغال، وفنزويلا) يكوّن الحرف الأول من أسمائها، على التوالي، كلمة "منسف" الأثيرة على قلوب من يطيب له تناول هذه الأكلة الفاخرة في ليلة تستحق الحفاوة. وبالفعل فقد اشتق هذا الناشط المفردة ببراعة، ودعا أصدقاءه في العالم الافتراضي إلى الانضمام إليه في تناول هذه الوجبة الباذخة.
وبهذه الواقعة اقتحمت السياسة غمار أكلة أردنية النشأة والمذاق والتقاليد، انتقلت مبكراً، بحكم التاريخ المشترك والجوار الجغرافي والأواصر الاجتماعية، من الضفة الشرقية إلى الضفة الغربية. فليس من المستغرب أن يتحول المنسف الى شيفرة وطنية تبعث على الاعتزاز القومي المشترك، ترمز إلى الغلبة والاقتدار والنجاح على ممكنات الدبلوماسية الهجومية في تحقيق ما عجزت عن تحقيقه الشعارات الثورية الرنانة، بعد أن تغيرت كل المعطيات الموضوعية المحيطة، وانسدت كل الدروب الصعبة القديمة.