في نظام اللغة


للعقل والخيال معاً أن يتظاهرا في استحضار اللحظات الاولى لاعتماد البشر نظاماً لغوياً, وفي ادراك كيفيات ذلك, سواء أكاد ذلك إلهاماً وتوقيفاً كما نعتقد نحن, أم كان «تواضعاً» على صعوبة التدليل على ما يذهب اليه اصحاب نظرية التواضع (أي اتفاق الناس على نظام دلالة أو لغة يتواصلون بها) وأول هؤلاء «ابن جنّي» صاحب كتاب «الخصائص».


اما ان اللغة توقيف أو الهام من الله, فمعتمد ذلك عندنا ما جاء في القرآن الكريم من تعليم الله سبحانه آدم الاسماء كلها. ثم ما لا يزال يحار فيه العلماء من وجود قبائل بدائية لها لغات ذوات بنى مركّبة تشتمل على قواعد منطقية لا تكاد تختلف عن تلك التي نجدها في ارقى المجتمعات الانسانية.

ولقد يصح لنا في ضوء ما نراه من ان توافق المجتمعات البشرية على انظمة دلالة متشابهة الاصول يمكن رده الى بنية فطرية واحدة او الى الهام رباني ان نقول بأن كلتا نظريتي «التوقيف» و»الاصطلاح» في اصل اللغات لا تختلفان في المضمون وان اختلفتا في شكليهما او في ظاهر امرهما.

وتعالوا نفترض مجتمعاً محدود الافراد مضطراً للتواصل وللتعاون فيما يواجه من تحديات او مصاعب او مخاوف. وتعالوا نفترض انه لم يكن يملك من ادوات الاتصال سوى اصوات مبهمة وهمهمات واشارات. ثم تعالوا نفترض وجود نظام متكامل للدلالة, ذي قواعد منطقية واساليب بيانية, وابجديات على نحو ما نجد في الأمم المتحضرة, ثم لننظر بعد هذا في اتساع مسافة الخلف مدنياً وحضارياً بين ذلك المجتمع البدائي المحدود وبين مجتمعات الحضارة التي تعددت فيها انظمة الدلالة واستوت اللغات على سوقها. ثم لننظر بعد ذلك في جوهريات بنية اللغة بين اكثر المجتمعات ايغالاً في البدائية وبين اكثرها نضوجاً وتطوراً, اترانا واجدين اختلافاً محورياً في هذه الجوهريات ام ترانا نردُّها الى بنية فطرية واحدة؟

تلك مسأل تصعب الاجابة عليها على وجه القطع، وإن كثرت فيها الاجتهادات لدى الانتروبولوجيين (المشتغلين بما يسمى علم الانسان) ولدى اللغويين، ولدى الفلاسفة، على أننا لا نعدم استبصارات معتبرة فيها لدى علماء اللغة العرب مثل ابن جني الذي ذكرناه آنفاً ولدى علماء الكلام، مثل المعتزلة والاشاعرة، ولدى علماء الاجتماع مثل ابن خلدون في مقدمته ولدى الفلاسفة مثل جان جاك روسو في كلا رسالتيه «محاولة في اصل اللغات» و»اصل التفاوت بين الناس» ولدى المشتغلين بالهويات القومية مثل «زكي الارسوزي» في كتبه: «العبقرية العربية في لسانها» و»رسالة اللغة» و»اللسان العربي» ولدى عباقرة البيان الادبي مثل مصطفى صادق الرافعي في كتابه «تاريخ آداب العربية» ذي المجلدات الثلاثة، ومثل عباس محمود العقاد في كتابه «اللغة الشاعرة».

ولو أننا ذهبنا نستقرئ ما كُتب في هذه المسألة (اللغات وأنظمة الدلالة على اختلاف انواعها) لما وسعنا المقام، لكن ما قد نظمئن اليه هو ان الانسان من حيث هو انسان، ومهما اختلفت الاشياء حوله فقراً ومحدودية او ثراء واستفاضة، مهيأ بالقوة لاصطناع اللغة، سواء أكان ذلك توقيفا ام اصطلاحا، على ان نعلم ان كلا الامرين مردود الى خالق هذا الانسان الذي علّمه البيان ونهج له مناهج العلم وطرائق العِرفان.