تحمل الكلمة وحمل القضية



من لا يحتمل كلمة لا يستطيع أن يحمل قضية؛ هكذا تكلم دولة عبد الكريم الكباريتي في تأبين المرحوم سميح دروزة العام الماضي. وما نمر فيه من أوضاع، يجعلني أعيد العبارة بطريقة مختلفة؛ هل تريد السلطة التنفيذية حقا تطوير حياة سياسية حقيقية؟ هل ترغب في تشاركية تسمح لها برحابة صدر للاستماع للأفكار المختلفة والاستفادة منها، أم المطلوب "سحيجة" فقط، مهمتهم التطبيل والتأييد لكل مواقف السلطة؟ هل المطلوب بناء مؤسسات راسخة تستطيع الحفاظ على هذا الوطن الغالي حين تهب الرياح العاتية، أم أن السلطة منتشية بهيمنتها على صنع القرار، بغض النظر عن الرياح الاقتصادية وغيرها التي تهب علينا اليوم؟
إن كنا نريد بناء وطن عصري، فلا بد من طرح هذه الأسئلة من دون مواربة، لأن الفجوة شاسعة بين ما تقوله الدولة عن بناء المؤسسات وبين ما يجري حاليا. في الماضي، كانت السلطة تتحجج بعدم رغبتها في مساعدة الإخوان المسلمين في الوصول إلى السلطة، كذريعة للتباطؤ في تطوير حياة حزبية، لكنْ هناك أفكار وتيارات اليوم لا تمت للإخوان بصلة، تحاول طرح قضايا سياسية واقتصادية ومواقف قد تختلف عن مواقف الحكومة؛ مثل موضوع مدنية الدولة غير المعادية للدين، والهم الاقتصادي، واتفاقية الغاز، وإعادة النظر في النظام التربوي، وحقوق المرأة، ودعم الأحزاب تشريعيا وماليا، ومكافحة الارهاب.
أصبح من الواضح اليوم أن السلطة التنفيذية، بأذرعها المختلفة، تعمل من وراء الكواليس من أجل إعاقة أي جهد من المجتمع المدني لتطوير تيارات أو أحزاب مدنية، كما دينية، إن لم تكن تحت مظلة السلطة تماما. لا بل إعاقة أي خطاب مختلف لا يتماشى مع الموقف الحكومي.
بلادي لا تجيد التعامل مع الفكر المستقل، لأن السلطة التنفيذية لا تريد لأحد أن يزاحمها على عملية اتخاذ القرار. وهذه السلطة ترى في التشاركية وبناء نظام من الفصل والتوازن خطرا على البلاد، وهو في الحقيقة خطر على مصالح المنتفعين منها فقط.
آليات التعامل مع الفكر تكاد تقتصر على منح المناصب أو الـ"ألو"، أو أي آلية أخرى عدا الاستماع والتحاور. وقد نجحت هذه الآليات في الماضي في إسكات الكثيرين، وإن لم تنجح في حل تحديات الوطن. وأصبح الولاء للوطن يختزل بالتطبيل لموقف السلطة؛ فبئس هكذا ولاء يقدم المصالح الشخصية على المصلحة العامة، لأن صديقك الحقيقي من صدقك.
وبدلا من تقديم الحقائق والمعلومات ومحاورة الناس فيما يتخذ من قرارات، جعلنا من الحرد والرضا سياسة عامة، كأن قضايا الوطن مواضيع يمكن حلها عن طريق الشخصنة، وليس بالحوار والتوافق. وقد أصبح واضحا أن كل هذه الآليات أصبحت بالية وغير قادرة على معالجة التحديات الرئيسة التي يجابهها الأردن، وعلى رأسها التحديات الاقتصادية وانتهاء فترة عائدات النفط.
حان الوقت كي تدرك الدولة أن آلياتها الحالية استنفدت، وأن الطريق الوحيدة لحل مشكلات البلد السياسية والاقتصادية هي التوافقية، والتعامل مع الفكر بالفكر وليس بالاسترضاء أو الحرد.
أين السلطة التنفيذية اليوم من الكلام الراقي لجلالة الملك بأن الاختلاف في الرأي ليس شكلا من انعدام الولاء؟ أين نحن من ثقافة سياسية ناضجة؛ فلا نضع العراقيل أمام تطويرها ثم ندعي أن البلاد غير جاهزة بعد للعمل الحزبي؟ سيأتي يوم تجبر الدولة فيه على الاعتراف بأن مرحلة النظام الريعي انتهت، وأن الآليات التي مولها هذا النظام الريعي لا يمكن استدامتها، وأنه لا يمكن الاستمرار في سياسات مثل الموازنة الجديدة التي توحي أن الدنيا "قمرة وربيع"، وكأن شيئا لم يتغير.
نريد أن نكون مستعدين لهذا اليوم بالأفكار والسياسات التي تُخرج الأردن من محنته، وليس بتوزيع المناصب أو الاتهامات لإسكات الناس.