الرجل العربي المريض


 

 

المسافة الزمنية التطورية ذاتها التي نهضت خلالها أمم وقوميات، كانت فترة تراجع مستدام للشعوب العربية ولأنظمتها التي تولّت تدبير شؤونها الحياتية. والسياق العالمي ذاته، الذي حمل إلى الصفوف المتقدمة أمماً وشعوباً كانت في الصفوف الخلفية، السياق التصاعدي هذا ذاته، كان سياقاً تراجعياً ونكوصياً للعرب وللعروبة، إذ عندما ظن القوم وهويتهم أنهما بلغا الذروة مع نيل الاستقلالات المتفرقة، كان الحقيقي وليس الظني أنهم باشروا النزول من الذروة المفترضة إلى قعر الوادي السحيق. هذه المسافة الضائعة بين العرب التائهين على دروب التعريفات والاستقطابات، والموزعين على تعريفات حاضرة وتعريفات ماضية، هذه المسافة الزمنية الثمينة صارت زمن فوات تَخلَّف خلاله الزمن العربي، واتسعت فجوة اللحاق بغيره من الأزمان غير العربية.

 

 

وحتى البارحة السياسية، ولنقل إنها لحظة انفجار الغضب الشعبي بدءاً من تونس وحتى يوميات حلب المقتولة، ما زال «العقل السياسي» العربي ضائعاً بين نتائج الحرب العالمية الأولى، وحائراً بمعاني الحرب العالمية الثانية، ومشدوهاً أمام توالي الارتداد السياسي العالمي عن الأوضاع التي انبثقت بعد الحربين العالميتين، وعاجزاً أمام تفسير نكوص القوى الكبرى عن تثبيت ودعم ما صنعته أيديها على امتداد الكرة الأرضية، وفوق جغرافيا الأرض العربية.

 

 

الفوات الزمني صار فواتاً تاريخياً بنيوياً، تَبِين ملامح ذلك على وجه السياسات وتطل من عيون الثقافات، وترتسم على جبين النخب التي توزعت على الثورات القومية والاشتراكية حين كانت الثورات «موضة» مجازة ومسموحة ومدعومة من فريق دولي محدد، وعلى الأفكار المضادة للثورية والتطورية باسم الدولتية والوطنية والخصوصية، حين كانت الليبرالية «موضة» انتساب إلى العصر، وماركة عالمية مسجلة لدى فريق دولي آخر، يدعمها ويساندها ويدافع عن ضرورتها في البلاد التي آلت إليه بعد استكمال قسمة مغانم «المقتلة» العالمية.

 

 

إذاً، ومن معطيات باتت ملموسة وغير مفترضة، لم يصب التغيير أو التطور أو التبدل، نظرة «القوى الكبرى» العالمية إلى المنطقة العربية، وظل ثبات الاستهداف بنداً من بنود برنامج هذه القوى. الحدث السياسي الأول السري الذي افتتح النيل من استقرار الديار العربية، كان وعد بلفور الذي قامت على سطوره مأساة فلسطين وشعبها، وتوالت الأحداث التي أكدت أن مواثيق الإنسانية وشرعيات الأمم المتحدة وشرعتها، ليست أكثر من مواد يجري استعمالها استنسابياً وسياسياً، وقد أثبتت كل الحقبات المديدة أن الاختبار الاستنسابي الأهم ما زال يدور في «مختبرات» المنطقة العربية. الشواهد الحاضرة أكثر من دالّة، والبراغماتية الدولية تمارس برودها في المدن والقرى العربية المدمرة والملتهبة، والخديعة الأخلاقية الغربية في شكل عام، تتبدى فصولها عندنا واحداً تلو الآخر.

 

 

قد يطرح السؤال: لكن ما الثابت لدى «العقل الغربي» الذي لمّا يطلع تماماً من مكيافيليته إلى أخلاق النهضة والتنوير التي بشَّر بها؟ الجواب يأتي من السياسات العملية وليس من أوراق الإعلانات النظرية، أما مضمون الجواب الأهم، فهو أن في وسع الأخلاق أن تنتظر عندما تتقدم المصالح لتفتح كل الأبواب، المشروعة وغير المشروعة، وفي السياسة يشكل غير المشروع القسم الأعظم من كل ما هو ضمن الكواليس السياسية وخلف الأبواب. عليه، وإذا كان الثابت حساب الربح والربح المتعاظم، يصير الاستهداف والاستهداف المتصاعد رديفاً للنظرية الربحية، ويصير من ضمن الحسابات المسبقة التغاضي عن «الأضرار الجانبية» التي تواكب آلة القتل الربحية. ولكي يتم ذلك بهدوء، ووفقاً لمسوِّغ أخلاقي لا يقلق ضمير الغرب العقلاني، يعطى المستَهدَف، الذي هو الرجل المريض العربي، صفات ثابتة تلخصها كلمة الآخر والمختلف والمخالف، وعند الضرورة يصير الآخر العدو، لذلك فإن السياسة الثابتة حيال هذا الآخر، هي إخضاعه.

 

 

اليوم، يتم إخضاع العرب جميعاً بالاتهام والتصنيف وبالقتل وبالتدمير. ليس مفيداً الوقوف طويلاً أمام هول المجازر المتنقلة من بيت إلى بيت، بل المفيد البحث العاجل والفوري في كيفية وقف المذبحة المتنقلة، للبحث لاحقاً عن كيفية التصدي بثبات للعداء الثابت الذي يحمله العقل السياسي الغربي عموماً، والذي لا يبدو أنه في وارد التراجع عنه، طالما أن العرب والعروبة يقيمون في مقام الهوان.

 

 

تبرز الحاجة ملحّة إلى ضرورة قيام حركة عربية شاملة، ترد على الهجوم الربحي الاقتسامي الشامل، الذي يديره الغرب، وتستفيد من فتاته القوى المجاورة الإقليمية وأنظمة الداخل الاستبدادية. بعث الهوية العربية هو المدخل الأهم للرد على الهجمات التي تستهدف هذه الهوية من بوابات الدين والمذهب والتعدد العرقي المقيم في الأرجاء العربية. أن يدعى إلى رد عربي عام، هو الواقع بعينه، أما الكارثة الكبرى فماثلة في اكتفاء العرب بتعداد الضحايا والبلاد المنهوبة والمحروقة، بمساهمة من أنظمة محلية فقدت من زمن شرعيتها وباتت حليفة لقوى القتل، ولفتاوى القادمين من غياهب الظلام.

 

 

 

 

 

 

 

 

* كاتب لبناني

 

 

للكاتبTags not available