بائع الأوهام

اخبار البلد_ تخيلت نفسي أميركياً من أصل مكسيكي، أو أفريقي من إحدى "زنقات" حي بروكلين في نيويورك، وأنا أُتابع خطاب رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو من على منصةٍ دانت لأسماء تكبره قدراًً ومكانة وإنسانية وصدقاً بمئات المرات، حتى وصلت له. مسرح هزلي مجاني يؤدي عليه ببراعة كوميديا شديدة السوداوية، ودراما بالغة الغباء، أما الجمهور العتيد من أعضاء الكونغرس الأميركي بمجلسيه الشيوخ والنواب، هؤلاء الذين يخططون لأميركا وللعالم كله أنفاسه وأحلامه، فكان جمهوراً من نوع خاص كما جمهور المسرح التجاري في القاهرة خلال مواسم الصيف.
جمهور نتنياهو تحت قبة "الكابيتول هيل"، أعرق بيوت التشريع وأكثر رموز الديمقراطية هيبةً في عالم اليوم، وقفوا مصفقين لنكاته الممجوجة واحدا وثلاثينَ مرة في مشهدٍ عز نظيره هنا في واشنطن، حتى عندما كان تشرشل وديغول وبومبيدو وأيزنهاور على هذه المنصة. وقتها تخيلت نفسي مجدداً عربياً مهاجراً إلى أميركا، هارباً من سماجة البرلمانات العربية واستغبائها للناس عندما يقضي أعضاؤها فترات نيابتهم نائمين أو مصفقين للزعيم أو شاردي الأذهان بصفقة تتلو الجلسة. سألت نفسي: كم كان وجه الشبه بين صورة أعضاء الكونغرس الأميركي في ذلك المساء وهو لا ينفك يصفق لعبارات نتنياهو، وبين مجلس الشعب السوري الذي كان الرئيس المُلهم يضطر فيه لمقاطعة تصفيق الأعضاء المتواصل ببعض الكلمات في خطاب الإصلاحات الشهير الذي أودى بحياة ألفٍ ومائة شهيد؟!
لو كنت أميركياً بالفعل لصدقت نتنياهو بكل ما قاله، ولاستقر في وجداني كذب هذا "المناضل اليهودي" الذي تعلم فن الخطابة هنا في واشنطن وعلى أيدي أميركيين دربوه كيفية أن تكذب وتواصل الكذب أمام جمهور حتى تكاد نفسك تصدق الكذبة.. ولآمنتُ أنه وشعبه ضحايا ادعاءاتٍ عربية وافتراءات اسمها حدود 1967.
أغرب ما في الأمر أنه هو نفسه، ووسط موجات التصفيق الحاد، كان يذكر حدود 1967 وكأنها عنوان لحالة أو لملفٍ تفاوضي لا يريد أن يعود إليه، فيما هي واقعٌ على الأرض اعترف به مراراً عندما أكده لفظاً وشرحاً من دون أن ينتبه ومن دون أن يعي أن "قرارك بعدم العودة إلى حدود 67 لا يعني  بطلان هذا الواقع الجغرافي والتاريخي والسياسي، لكنه يعني فقط أنك تُمعن في غبائك السياسي".
أدركت أن الأميركيين المتواجدين في تلك الجلسة بمبنى الكونغرس يشبهوننا نحن العرب بكثير من "عبطنا" وسطحية تصديقنا للشعارات الرسمية المُعدة بدقة، والأكاذيب المرصوصة تحت شعارات الأمل والمستقبل والإنسان والحلم، وهي ذات العناوين التي هز بها نتنياهو ضمائر نواب الأمة الأميركية، فباعهم الأوهام الرخيصة تحت مسمى التنازلات الباهظة.
ثم بعيداً عن السياسة، عاد بيبي نتنياهو ليُمارس أرفع مستويات الدبلوماسية المبتسمة بالوصفة الإسرائيلية الشهيرة، عندما استمع بحنان لمقاطعة السيدة الأميركية اليهودية، راي ابيليا، التي قاطعته بعبارات الاستهجان لاحتلالٍ عنصري يطال أطفال فلسطين وحياة الأبرياء واغتصاب الأرض، ليرد عليها بأُبوة الزعيم الدافئ "بالفعل يُشرفنا هذا الكلام ليؤكد للعالم أننا نستطيع أن نعبّر عن أنفسنا في هذا البلد".
في تلك اللحظة قفز إلى ذهني حنين الزعبي، والذي جرى لها في الكنيست. سألت نفسي: ما هي أخبار لجنة التحقيق فيمن قُتل على متن أُسطول الحرية؟ تذكرت غولدستون، والضغوط التي تمارس على الصحافيين والنواب العرب في مناطق الداخل.
اكتشفت ان العنكبوت الإسرائيلي ما يزال يخيم على الحالة الأميركية، وأن دموية نتنياهو لم تثن عضو كونغرس واحد على احترام نفسه وقواعده الانتخابية وعدم الوقوف والتصفيق، وأن قصة حرية التعبير انطلت عليهم أيضاً متناسين من أمر "الفيسبوك" شطب مواقع خاصة بالموضوع الفلسطيني، ومن خرج من "مدبرة" ويكيليكس سليماً دون العالم، ومن واجه متظاهري ذكرى النكبة بالرصاص على عيون الأشهاد.
آخر الصور أن أمام كل هذا الضغط، كان على أُوباما الذي سبق نتنياهو بخطاب مختلف، أن يراجع نفسه وان يغسل كلماته أمام لجنة "إيباك" معتذراً عن حماسته المفرطة وموضحاً "سوء الفهم"، ومؤكداً أن ما قاله نتنياهو أمام الكونغرس هو لسان حال أميركا، وأنه لولا الأعراف البروتوكولية "لكنت أنا أيضاً رئيس الولايات المتحدة أول المصفقين الواقفين المبتسمين المصدقين للكذبة".
عرفت بعد ذلك أن السيدة راي إبيليا التي قاطعت نتنياهو تعرضت بعد ذلك الرد المهذب في الكونغرس لضربٍ مبرح من "شبيحة" على الطريقة الأميركية، أقعدها في إحدى مستشفيات واشنطن وما تزال.