ما اصطحبته من كتب قرأتها في سفرتي إلى اسطنبول

د. علي العتوم
جرت لي عادةٌ منذ سنين أن أرتفق بباقةٍ من الكتب أحرص على ألا تقل عن ثلاثة، أحدها في الأدب وآخر في الدين وثالثٌ في التاريخ. ولقصر المدة في هذه المرة (29 30/11/2016م) اقتصرت على كتابين أحدهما في التاريخ عن السلطان سليمان القانوني وثانيهما في الأدب وهو ديوان (نداء الفجر) للشاعر أحمد زكي أبي شادي، وسأقتصر في هذا المقال على كتاب التاريخ تأليف الأستاذ منصور عبد الكريم.
يتحدث الكتاب عن السلطان سليمان القانوني (1494 – 1566م) بوصفه أعظم سلاطين بني عثمان، إذ اتسعت رقعة الدولة في عصره إلى أقصى مداها، وغدا بذلك أشهر زعماء الأرض وأقواهم، وقد تولى الحكم بعد وفاة والده السلطان سليم الأول سنة 1520م، بدأه بالصدام مع الدولة الصفوية في إيران التي كانت هي وأتباعها في بلاد العرب خنجرًا في خاصرة الدولة العثمانية، وُدُّهم لأعداء الإسلام من دول الغرب مع قيامهم بحركات التمرد والتنكيل بأهل السنة.
وكانت أشهر هذه الصدامات زمان الشاه (طهماسب) ابن الشاه إسماعيل الصفوي الذي هزمه السلطان شرَّ هزيمة بعد أن جرد عليه ثلاث حملات طرده إثرها من معظم ما يدَّعيه من ممالك.
وكان أعظم ما يُرى من قوة الدولة في زمانه وعظمتها قيامها بفريضة الجهاد والفتح في أوروبا خاصة وعلى أعلى مستوى وبأعظم استعداد حتى وصلت قواته أبواب فيينّا، واستولت على المجر سنة 1526م. وقد بلغ من شأنها في أمم الغرب أن تعين بعض الملوك على بلادهم ممن يسالمها وتقرهم ضد أعدائهم من بني جلدتهم ممن يحمل الحقد عليها ويباديها بالعداوة، كما كان الحال مع ملك المجر (زابولي) ومن ثمّ –بعد وفاته– تثبيت ابنه سجسموند على عرشه بشفاعةٍ من أمه الملكة (إيزبيلا) . ولم يقتصر الأمر على بلاد أوروبا بل ضم إليه تكميلاً لِما بدأه والده، كل – تقريبًا – بلاد العرب في الشرق وشمالي إفريقيا لِما رأى من ضعف السلطات الحاكمة فيها من مماليك كما في مصر والشام، أو غيرهم من الحكام المحليين الذين يخون بعضهم بلاده ويتعاون مع ملوك أوروبا كما في بعض دول المغرب العربي.
وكما كان ملك السلطان عظيمًا في البرّ كان كذلك في البحر، إذ صارت قواته فيه سيدة البحار بدعم منه للأسطول الحربي الذي كان يقوده خيرالدين بارباروسا أمير البحار في وقته والذي دوَّخ أقوى أساطيل أوروبا العائدة للأمبراطور شارل الخامس أمبراطور الدولة الرومانية المقدسة والذي كان تحت حكمه إضافة إلى إسبانيا، إيطاليا وألمانيا والأراضي المنخفضة هولندا وغيرها، وتدعمه الكاثولكية العالمية . وقد بلغ من نفوذ السلطان سليمان أن كانت في عهده معظم دول أوروبا إن لم يكن كلها تدفع له الجزية، وتبعث له بأنفس الهدايا وأحدث المعدات ليدعم بها جيشه بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا وإسبانيا وألمانيا وغيرها وغيرها !!
ولاريب أن أعظم ما خاضه السلطان مع دول الغرب من عمليات جهادية، كان حربه مع ملك المجر (لايوش الثاني) ، وتعداد جيشه مئتا ألف جندي وذلك في معركة وادي (موهاكس) التي كانت نتيجتها وخلال ساعة ونصف فقط ، هزيمة كاسحة للمجريين ، أصبح جيشهم إثرها في ذمة التاريخ، بعد أن قُتِل منهم من قتل وغرق من غرق بمن فيهم الملك وقواده وأساقفته في مستنقعات الوادي . وقد وقع منهم في الأسر من وقع وتعدادهم خمسة وعشرون ألفًا، بينما استشهِدَ من المسلمين مئة وخمسون، وبضعة آلاف من الجرحى مرشحين للحاق بهؤلاء في جنة الله ورضوانه، وبذلك أصبحت هذه المعركة نقطة سوداء في تاريخ المجريين ، راح يجري على ألسنتهم
– كلما نُكبوا بأمرٍ أو أصابهم سوء حظ – قولهم : (أسوأ من هزيمتنا في موهاكس) !!
ومثل هذا اللقاء وأعظم منه اللقاء مع شارل الخامس ملك إسبانيا والمؤيد من الكنيسة الكاثولكية في العالم باسم باباها والمنادي بالحروب الصليبية على المسلمين (بولس الثالث) . وذلك في زحفه على الجزائر لاحتلالها، وقد كان زعيمها (حسن أغا) خليفة برباروسا عليها وعلى البحر . ولشدة وقاحة هذا الصليبي المتغطرس أرسل إلى أغا هذا يقول له : (أنقذ نفسك من يدي وسلِّمْني القلعة، وإلا أمرت بإنزال حجارتها في البحر واحدًا واحدًا، ثم لا أبقي عليك ولا على سيدك ولا على الأتراك ، وأخرب كل البلاد) !! فأرسل إليه الأغا حسن يقول بلغة المسلم الواثق : (أنا خادم السلطان سليمان، تعال واستلم القلعة، ولكنْ لهذه البلاد عادة أنه إذا جاءها العدو لا تعطيه إلا الموت) !! وقد نصر الله المسلمين في هذه المعركة نصرًا مؤزرًا هز أوروبا كلها ، إذ تمّ تدمير الحملة الصليبية تدميراً كاملاً ونجا الملك من الموت بأعجوبة ، وشوهد باكيًا منهارًا للكارثة التي حلت به وبجيشه، فذبح جواده ، وألقى بتاجه في البحر من شدة الهلع والأسى !! هذا إلى معارك أخرى ضارية مثل (شرشال) و (بروزة) كان النصر الكاسح فيها حليف المسلمين والهزيمة الشنيعة حليفة الكفار من أعداء الله الإسبان .
وقد بقي الخليفة رحمه الله محييًا فريضة الجهاد ومولعًا بها إلى آخر حياته، مع أنه كان حينها مصاباً بالنقرس الذي لا يستطيع معه أن ينزو على الخيل إلا بمساعدةٍ، ولا يسير في المعركة إلا على عربة . ولما بلغه أن ملك المجر أغار على ثغور المسلمين ، نهض إليه . وعندما نُصح بعدم الخروج لوضعه الصحي قال ، بإيمان المؤمن : (أحب أن أموت غازيًا في سبيل الله)، فخرج رحمه الله يقود الجيش الإسلامي لتأديب هذا الكافر المتوقح . وكان من دعائه عندما اشتدت المعركة، قوله : (يارب العالمين ، افتح على عبادك المسلمين ، وانصرهم ، وأضرم النار على الكفّار) . فما كان من رب العزة سبحانه إلا أنْ قدّر وقوع قذيفة من قذائف مدافع المسلمين على مخزن سلاح العدو وتدمير معظمه، إذ تعالت فيه ألسنة اللهب، وانتشرت سحب الدخان، وتطايرت قطع السلاح في الأجواء بشكلٍ عجيب، مما قدر الله جل وعلا نصرةً للمسلمين الموحِّدين، وخذلانًا لأعداءهم المشركين المتوقِّحين .
وتوفي السلطان رحمه الله بعد أن ترك سيرةً عطرة وأمجادًا كريمة، جمع السلاح وأعدّ العدة، وشجَّع العلم وأحيا السنة ، وصان الوديعة وحفظ الأمانة ، فذهب حميدًا سعيدًا ، يُثني عليه العلماء والشعراء وعلى آله السلاطين العثمانيين بما يستحق ويستحقون أجمعين . فهذا صاحب كتاب (نزهة الأنظار) محمد بن سعيد مقديش،
يقول : (كان رحمه الله مؤيَّدا في حروبه ومغازيه ، أين سلكَ ملكَ، وصلت سراياه مشارق الأرض ومغاربها ، فافتتح البلاد الشاسعة والأقطار بالقهر والحجة والسيف، وأقام السنة وأحيا المِلّة، ورفع شعائر الشريعة وأعلى منارها ، وأحيا ما اندرس من آثارها ، فكان من المجدِّدين لهذه الأمة دينَها لكثرة علمه وعمله وأدبه وفضله ، وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر) . وقال الجبرتي عن سلاطين بني عثمان يمتدحهم : (وكانوا في صدر دولتهم من خير من تقلد أمور الأمة من بعد الخلفاء المهديين ، وأشد من ذبّ عن الدين ، وأعظم من جاهد في المشركين ، فلذلك اتسعت ممالكهم بما فتحه الله على أيديهم وأيدي نوابهم ، وملكوا أحسن المعمور من الأرض، ودانت لهم الملوك في الطول والعرض) !! بل هذا العالِم الجليل أبو سعود صاحب التفسير المشهور (تفسير أبي السعود) يقول في السلطان القانوني يرثيه :
من قد ملا جملةَ الدنيا مهابتهُ
وشخرتْ كلَّ جبّارٍ ومقهورِ
مُعلي معالمِ دينِ اللهِ مظهرها
في العالمين بسعيٍ منه مشكورِ
وحسنِ رأيٍ إلى الخيراتِ مُنصرِفٍ
وصدقِ عزمٍ على الألطافِ مقصورِ
مجاهدٌ في سبيلِ اللهِ مجتهدٌ
مؤيَّدٌ من جنابِ القسطِ منصورِ
له وقائعُ في الأعداء شائعةٌ
أخبارها زُبِرتْ في كلّ طامورِ
ويبقى أمرٌ آخر أرى أنْ أعرض له وهو ماعُرف بحريم السلطان ، وماأشاعه عنه أعداء الإسلام من صليبيين وماسونيين ويهود، ومن تأثر بهم من أعراب الضلالة في بلادنا من أنه أي الحريم ، محيطٌ الغرضُ منه اختلاطُ الرجال بالنساء والعبُّ من الشهوات وارتكاب المحظورات دونما وازعٍ من دين أو خلق . وهو في حقيقته أمكنةٌ ملحقة بمقر السلطان الرسمي فيه أولادُه وبناتُه ونساؤُه من زوجاتٍ وأخواتٍ وأمهاتٍ . وهو مكانٌ من لفظه يدلّ على الحرمة فيه التي يجب أن تُصان ، والحرام الذي يعني وجوب عدم مقارفة المنكر بأية حال . ومما يدل على ذلك أنه كان على أبواب هذا الحريم عبدانٌ أشدّاء موكلون بحراسة من بداخله ، لا يفتحون أبوابه إلا للسلطان وبأمرٍ منه، ومَنْ خالف ذلك أو حاول حتى مسارقة النظر إلى من بداخله فجزاؤه الشنق ، كما حصل يومًا لأحد التجار من رعايا جمهورية البندقية وأرمنيٍّ يعمل مترجمًا ، حاولا مجرد التلصص على أجنحة الحريم ، فشُنِقا وذلك عهد السلطان مراد الرابع (1623 -1640م) . ولقد ذكرتُ هذا للتبيان بأنّ ماعُرض قبل سنوات من (فيلم) تركي (حريم السلطان) بعيدٌ كل البعد عن طبيعة هذا الحريم الذي عرفه بنو عثمان الكرام . رحم الله السلطان سليمان القانوني عاشر السلاطين العثمانيين وثاني خلفائهم بعد أبيه ممن تلقبوا بالخليفة وبأمير المؤمنين ، رحمةً واسعة، وغفر له ماقد يكون بدر منه من خطايا لا يعرو منها إنسان ، ولاسيما في قصة زواجه من (روكسلانا) الفتاة الروسية نصرانية الدين أو يهوديته التي كان لها – بدافع كيدها النسوي وغيرتها الأنثوية - من دور في إيقاع فتنةٍ بين السلطان وأهل بيته...