الإفتاء وسيادة القانون



في ورقة النقاش الملكيّة السادسة التي حملت عنوان "سيادة القانون أساس الدولة المدنيّة" ورد كلام مهم وتأسيسي عن أنَّ الأردن دولةٌ مدنيّة، وعن أن سيادة القانون هي عماد هذه الدولة، حيث وردت عبارة سيادة القانون، وكلمة القانون 42 مرة، مما يشي، بالإضافة إلى العنوان، بالأهمية المطلقة التي تُعوِّلُ عليه الدولة الحديثة، وجلالة الملك أهمُّ من يعوّل هنا، على سيادة القانون، ليس في أي دولةٍ، بل في الدولة المدنيّة تحديداً. وهذا يعني أن الورقة تتجه بوضوحٍ ما بعده وضوح، إلى مأسسة القانون المدني البشريّ، وإن عرّجت على الشريعة التي هي أحد مصادر هذا القانون لا كلّها.
أعود إلى الورقة الملكيّة لأنني أنظر إليها الآن في سياق اصطدامها مع الواقع الذي لا نجده يتحرّك قيد أنملة باتجاه مقاصدها ومطالبها. فأين سيادة القانون؟ وأين الدولة المدنيّة؟
يبدأ القانون بسيادته عندما يحتل رؤوس البشر، أي عندما يؤمن به العقلُ البشري إيماناً عميقاً ويراه ذلك المرجع الذي يحدِّد واجباتِه وحقوقه في المجتمع الذي هو فيه والأرض التي هو عليها. فإذا لجأ صاحب هذا العقل (وهو مواطنٌ في دولة) إلى مراجع أخرى سواء أنالت من حقوق الآخرين وحقوق الطبيعة أم لم تنلْ، كان ذلك رفضاً صريحاً للقانون وسيادته، وخروجاً أكيداً على مفهوم الدولة الحديث. وتحوّل هذا المواطنُ إلى كائنٍ بشري في تجمّع بشري، القبيلة المترحّلةُ خلف الماء والكلأ أعلى منازله. ولكن، من يضع القانونَ كمرجعيّة أولى في الاجتماع البشريّ، في رؤوس الناس بحيث يغدو المفهومُ المجرَّدُ سلوكاً يوميّاً؟
لا شك أن المؤسسة الدينية هي إحدى الدوائر المهمّة التي تؤسِّسُ في عقول النشء والمجتمع لمبادئ وأفكارٍ وممارسات. وهي مطالبةٌ أكثر من أيّ مؤسّسة أخرى، بسبب دورها المؤثّر في الواقع، أن تُعلي من شأن التربية القانونيّة في أذهان العامّة، بحيث يغدو احترام القانون وتسييده كمرجعٍ، خلقاً من أخلاق المجتمع وأفراده. ولكن ما يحدث في الحقيقة والواقع غير ذلك، وما يزال بعيداً كلّ البعد عن الورقة الملكيّة وتوجيهاتها نحو سيادة القانون.
ولن نذهبَ في التفصيل إلى ما تناولناه سابقاً من أدوار للمسجد بخطبه ودروسه، ولمراكز تحفيظ القرآن وللوعظ والإرشاد الرسميّ والأهليّ، في مناصرة الدولة المدنيّة (التي تحمي الاختلاف والتآلف المجتمعيّ وتضمن الحريات والمساواة لجميع الأفراد)، ناهيك عن الدور السالب الذي تمارسه حاليّاً. ولكنا سنضربُ مثالاً صارخاً تردَّدَ حضوره في الآونة الأخيرة، واستدعى ردود أفعال غاضبة على منابر التواصل الاجتماعيّ؛ وأعني إفتاءات دائرة الإفتاء في الشأن الدنيويّ، وهو الشأن الذي ينظّمه القانون. ومن حيث المبدأ لا نجد حرجاً على الدائرة أن تساهم في الشأن العام، بل إن ذلك مطلوبٌ وضروريّ، على أن تكون مساهماتُها لتعزيز دولة القانون والدولة المدنيّة لا للتضارب معهما ولنزعهما من الفكر والممارسة.
أصدرت دائرة الإفتاء خلال العام الحالي عدداً من الإفتاءات من أخطرها في رأيي تلك الفتوى المتعلقة بجرائم الشرف فهي جنوحٌ صريحٌ نحو دينيّة الدولة لا مدنيّتها، فالجريمةُ جريمةٌ يُعاقب عليها القانون، فما معناها إذن؟ وكان أحرى أن تتوجه الفتوى إلى أصل المشكلة التي تجعل من الذَّكَر، حتى لو كان جاهلاً وأحمق، مسؤولاً عن الإناث في العائلة، وربط شرفه بما يصدر عنهن. كان الأحرى الحديث عن الشرف ومعناه بعيداً عن علاقته بالمرأة، من التزام الصدق والأمانة وأداء الحقوق، لا عن الجريمة نفسها التي لها عقاب موجود في قانون العقوبات! كان أحرى أن تتوجّه الفتوى إلى دعم المطالبات بتغليظ العقوبة!
على دائرة الإفتاء مراجعة نفسها، وسؤالها: هل نحن كدائرة حكوميّة نلتزم بشعار جلالة الملك: سيادة القانون والدولة المدنيّة، أم ما زلنا نعيش في القرن السابع الميلادي؟
دعونا لا نفقد الأمل...!