تقليد وتجديد
ويحمّل طه حسين السرعة التي دُفعنا اليها في حياتنا الحديثة، ولا سيما السرعة التي دُفعنا اليها في التعليم تبعة هذه اللهوجة والحَسْو السريع الذي تتسم به حياة الادب في ايامه – فما بالكم في ايامنا – اذ لم يعد التعليم التعليم آنذاك – فما نقول اليوم؟–يقصد لنفسه، وانما هو وسيلة يتوسل بها الى هذه المنزلة (التي تتهيأ في فراغ العقول) او تلك، والى هذا المنصب (الذي قد لا يعدو حضور بعضهم فيه جثوم الخشب المسندة في مطارحها)، او الى ما يُتوخى به من كسب القوت في أسرع وقت ممكن وعلى ايسر حال ممكنة.
ويفرّق طه حسين بين التجديد في الحياة المادية للناس وبين التجديد في حياتهم الفعلية والادبية، اذ الاول أيسر منالا واقرب من الثاني، فهو لا يحتاج الى ذلك العلم الواسع والفهم العميق او الى الادراك القوي المحيط بحقائق الحياة، وانما يحتاج الى ان تُقرّب له الأدوات المادية التي تُيسّرُ له الحياة وتجعله ادنى الى الترف الذي هو غاية هذا التجديد المادي.
اما التجديد في حياة العقل والشعور فليس من سهولة التناول بهذه المنزلة وانما هو كما يقول طه حسين في حاجة الى تطور شديد عميق بعيد المدى اين منه واقع الادباء الشبان – حين كتب الرجل مقالته هذه وفي ايامنا هذه على حد سواء – وما هم فيه من نزق وعجلة، وتزبيب قبل حصرمة، وتجاوز للاطوار، وحرق للمراحل، الى «مظهرية» مُعجبة قد لا يكون ادركها كما ندركها نحن او صَلِيّ بها كما نصلاها نحن، اذ القاعدة العامة في حياتنا الاجتماعية (والسياسية والثقافية) انه ليس مهما ان تكون مثقفا حقيقيا (او وطنيا صادقا، او تقياّ ورعاً، او انسانا ذا اخلاق رفيعة..الخ) ولكن المهم ان تبدو كذلك. وهي مظهرية تستغرق قضية التجديد الادبي والفكري فيما تستغرقه.
واذا كنا قد اكثرنا من الجمل الاعتراضية المؤيدة لطه حسين في مقالتنا الاستذكارية هذه فان ذلك محمول على تشابه الاحوال وخيبة الاجيال بعد الاجيال، ولولا ان ثمة في الأُمّة رجالا عصمهم الله من هذا اللهاث السريع او السُّعار اللاهث الذي لا يستأنى ولا يتوقف لحظة، ولا سيما في مسألة الفكر والأدب وما يكون قواما للشخصية الحضارية للأُمم، لكان علينا ان نقرأ على امتنا السلام. ولكن لله سبحانه ألطافاً باقية فينا، ولا يزال فينا طائفة قائمة على شرائط الحياة ومنطق الحق، ومناهج النظر السليم، لا تلهث في غبار مركبات الآخرين، ولا تؤخذ بالبهارج، ولا تُخدع عن ميزانها الحق وقسطاسها المستقيم.