في حرفة الادب


يحذق «الميكانيكي» صنعته مدى عام على وجه التقريب, وكذلك «الكهربائي» أو «المواسرجي» أو «الدّهان» او ما شئت من اصحاب الحرف, ثم لا يلبث أن يكون «معلماً» يكسب زرقه بعرق جبينه وان يعيش موفور الكرامة, مطلوب الرضى من الناس, يرجونه أن يراعي ضميره فيما يباشر من اعمال, ولا يبخسونه حقه, بل لا يجرؤون على التفكير في ذلك.


والحرفة التي تؤمن لصاحبها العيش الكريم تؤمن له في الوقت نفسه مساحة من الحرية في التعامل مع زبائنه, ناهيك بها اماناً من الفقر في أسوأ الاحوال ومدرجة الى الستر والرضى في غالب الاحوال.

أما «الكاتب» و»الاديب» ومن ادركته «حرفة الادب» فهو يظل السنين الطوال يدأب في طلب المعارف ولا يكاد يستشعر تمكّنا في «صنعته» حتى يغلبه هاجس الكمال فيستأنف مسيرته الشاقة مرة اخرى, وقد يصيبه مع تعاقب السنين ضعف في بصره وتراجع في صحته, حتى اذا استحصدت تجاربه وتكاملت أدواته وبدأ «ينتج» ما يرى أن مجتمعه في حاجة اليه من افكار ورؤى ومناهج تفكير, انتبه الى ان الناس لا يلتفتون الى «بضاعته» ويرون أنها فضول من الفضول, ولا يقدرونها حق قدرها, ويشترطون على تبخيسهم لها ان لا يضمّنها ما يزعجهم من قيمه ومبادئه, وان تأتي منه وقد تحيّفها الادهان والملق, الامر الذي يوقن معه بخيبة المسعى وسوء المصير, وأن لو انتبه لنفسه منذ البداية لامتهن حرفة من تلك التي قمنا ببيان فضائلها في مطلع الحديث.

وكما يصدق هذا على رجل الفكر فهو يصدق على كل مشتغل بالفنون على انواعها, وعلى كل مشتغل بالعلم والفلسفة والدين. فكل هؤلاء يسلخون من اعمارهم العقود في التحصيل ثم ينتهي بهم الامر الى أن يقايضوا جناهم الصعب بأدنى القوت, أو أن يشتروا بجواهر عقولهم ثمناً قليلاً, بحيث ينطبق عليهم قول أبي العلاء:

وحسب الفتى من ذلّة العيش أنه

يروح بأدنى القوت وهو حباء

وبقدر ما يصعب على هؤلاء أن يعودوا على آثارهم قصصاً فيختاروا طريقاً أكرم وأحسن عاقبة, فإنه ليصعب عليهم ان يخلعوا كفاياتهم التي صرفوا فيها أنوار بصائرهم, ولا ما اشتملوا عليه من قيم لا يرون للحياة قيمة بدونها..

إنهم ضحايا اكتمالهم.

وكما يقول أبو العلاء أيضاً:

توقّى البدور النقص وهي أهلّة

ويدركها النقصان وهي كوامل

ولا بد لهم من حكمة بالغة وصبر جميل حتى يبلغ بهم الاجل مستقره. ولكل اجل كتاب.

 

 

طباعة
طباعة مع التعليقات