الإسلام والحداثة عند فضل الرحمن

تمثل إشكالية البحث في العلاقة بين الإسلام والحداثة أحد أهم مضامين الخطاب الإسلامي الحديث والمعاصر فقد طرحت الحداثة بتحققاتها الأوروبية منذ القرن التاسع عشر تحديا عميقا على العالم عموما والعالم العربي الإسلامي خصوصا فقد شكّلت فلسفة الأنوار الأوروبية في القرن الثامن عشر والتي تحدرت كمسار طبيعي لعصر النهضة الأوروبي خلال القرن السادس عشر منعطفا تاريخيّا تحكّم في مجمل الإنتاج المعرفيّ الغربي والعالميّ إذ أحدثت قطيعة معرفيّة مع النّسق المعرفي الذي كان سائدا في الغرب مع شيوع نماذج معرفيّة تتّسم بالسّحرنة والخرافة والطّغيان.


في هذا السياق يعتبر فضل الرحمن أحد أهم المفكرين الإسلاميين الذين تناولوا إشكالية العلاقة بين الإسلام والحداثة وعلى الرغم من افتتان فضل الرحمن بالحداثة واعتبارها واقعا كونيا إلا أنه أصر على موضعة نفسه كجزء من فعاليات النضالية الإسلامية ومن المفارقات المثيرة تصادم فضل الرحمن مع قراءات أهل الحديث في العالم الإسلامي الذين تموضعوا في جبهة حماية النص والدفاع عنه الأمر الذي انتهى بسخطهم عليه واتهامه في إيمانه وإخلاصه واجباره على مغادرة موطنه باكستان وقد حافظ فضل الرحمن طوال حياته على التزامه القول بتاريخية النص القرآني مع التأكيد على صدق انتمائه للإسلام رغم إساءة فهم راديكاليته وحداثته وتغربه.

رغم أهمية الإنتاج الغزير والواسع للمفكر الإسلامي الباكستاني البارز فضل الرحمن فإن كتابه «الإسلام وضرورة التحديث» هو الأكثر شهرة وتداولا على الصعيد العالمي فقد تمكن فضل الرحمن من بلورة أفكاره ورؤاه بشكل نهائي في هذا الكتاب بخصوص مسألة «الإسلام والحداثة», وكشف بشكل ملفت عن أسباب إخفاق النمط التنموي المتبع في باكستان وبقية بلدان العالم الإسلامي مع التأكيد على ربط هذا الإخفاق بحقيقة مفادها أن حكومات هذه البلدان كانت كما أشار جونار ميردال في كتابه «الدراما الآسيوية» عاجزة عن دفع التنمية بما يكفي من العمق والسرعة نظرا لطبيعتها كدول رخوة حيث تبدت على الدوام عاجزة عن تحفيز جماهيرها وتأطيرها بشكل حيوي.

إن السبب الرئيس الذي أدى لإخفاق البلدان الإسلامية من تحقيق التنمية والتحديث بحسب فضل الرحمن هو عجزها عن خلق الأساس الثقافي الخاص بها, فالصراع بين القديم والجديد هو الأساس الذي انطوت عليه سياسات الإخفاق والفشل وجوهر الحل بحسب فضل الرحمن يكمن في صياغة ارتباط عضوي يظهر في القدرة على تفسير القديم انطلاقا من الجديد فيما يتعلق بالجوهر, وعلى جعل الجديد يخدم القديم فيما يخص المثل العليا, بيد أن الأوضاع لم تتطور على هذا النحو، فالمأزق الذي كان يطبع الحياة التربوية والثقافية أيام شبلي النعماني ومحمد عبده لا يزال قائما حتى يومنا هذا ويكمن السبب في أن كافة الجهود التي بذلت من أجل الوصول إلى تكامل أصيل بين القديم والجديد قد عجزت عن إتيان ثمارها على الرغم من الوعي العميق بوجود تلك الثنائية في مجال التربية والثقافة.

توصل فضل الرحمن إلى نتيجة مفادها أن الاستعارة من القديم والأصل لا ينتجها الأصل ذاته وإنما الآلية المنتجة لهذا الأصل فلا يتعلق الأمر بتجاوز الأصل وإنما بآلية إنتاجه فبلورة آلية مغايرة في إنتاج الأصل (القرآن والسنة) يتطلب تكرار تجربة السلف والصحابة منهم على وجه الخصوص في التعامل مع الأصل واعتبار هذه التجربة أصل ومعيار نموذجي تتحدد به مدى أصالة أو انحراف أي فكر لاحق فالمشروع الذي اشتغل عليه فضل الرحمن يقوم على إعادة اكتشاف الحداثة داخل النسق الإسلامي باعتبار الحداثة ليست واقعا نهائيا مطلقا ومكتملا وإنما يمكن تحقيقها من خلال التعاطي الكيفي مع نصوص الإسلام المؤسسة بطريقة تسمح بالكشف عن طاقتها الخلاقة بطريقة تكون مغايرة عن النمط الذي ساد منذ قرون حتى الآن والذي تعامل مع القرآن بشكل تعسفي من خلال المدارس الغيبية من صوفية وكلامية كما أصبح القسم الأعظم من الفكر السلفي مجرد فكر أدبي خاو وبعيد كل البعد عن النظر بأصالة في عمق أعماق القرآن.

أدت القراءات السابقة بحسب فضل الرحمن إلى عدم فهم الوحدة القرآنية مع التركيز على تمزيق الآيات وعزلها عن بعضها البعض، وكان من نتيجة هذه المقاربة «الذرية», أن الشرائع غالبا ما كانت تستنبط من آيات لم تكن بحد ذاتها تشريعية وفي بعض الأحيان التي تمت فيها قراءة القرآن كوحدة من قبل بعض الفلاسفة والمتصوفة فإن هذه الوحدة إنما فرضت على القرآن وعلى الإسلام عموما من خارجه بدلا من أن تترتب على دراسة القرآن نفسه فعلى مدى قرون تم التعاطي مع القرآن بقراءة برانية تعتمد على الانكسار والتفتت ولا تتعامل معه باعتباره كل متماسك ينطوي على ضرب من الوحدة العميقة.

إن هذا التعامل البائس مع القرآن والتعاطي معه حكم بأسلوب حرفي وسطحي في جزئيته وجامد لا حياة فيه ولا بد من الاعتماد على منهج تأويلي للقرآن يتجاوز القراءة الذرية, واعتماد طريقة في التفسير تقوم على أساس حركة مزدوجة: من الوضعية الراهنة إلى الأزمان القرآنية, ثم في عودة إلى الزمن الراهن, و بمقدار ما سيكون بإمكاننا أن نقوم بهاتين الحركتين بنجاح فسوف تصبح تعاليم القرآن حية وفعالة مرة أخرى, ومن هنا فقد شن فضل الرحمن حملة شعواء على المدرسة الأشعرية باعتبارها أصل كل انحراف عن الإسلام بترويجها لرؤية ذرية وقراءة للإسلام تقوم على أساس التفتت والابتسار والانفصال, ولا بد من إعادة الاعتبار لمفهوم السنة الحية كما عاشته أجيال المسلمين الأولى, عن طريق تأسيس نوع من السنة الدينامية للجماعة المسلمة في الوقت الحالي.

تقوم المقاربة الجديدة التي اجتهد فضل الرحمن في استنباطها لخلق حداثة إسلامية مبدعة على أساس الاستعارة من رجال الجيل الأول من أهل الإسلام الذين انطلقوا في أحكامهم واجتهاداتهم من خلال تجربتهم مع التعاليم القرآنية ككل ومن هنا فإنهم أعرضوا عن الاستناد إلى الآيات الفردية والمخصوصة إلا في حالة وجود دلالة للآيات تتعلق مباشرة بالمسألة المطروحة فالأجيال الأولى للإسلام كانت تستند إلى السوابق الملموسة التي خبروها خلال حياة الرسول صلى الله عليه وسلم إذا كانت متوفرة وإلا فإنهم كانوا يلجأون لفهم إجمالي لمقصد القرآن وعندما تعرض المسلمون لنوازل وإشكالات جديدة فإنهم أتوا بأجوبة واجتهادات تأخذ في حسبانها العوائد والممارسات المحلية لكنها تقوم في الأساس على التعاليم العامة الواردة في القرآن الكريم والتي عاشوا في أكنافها وسمحت لوجودهم بالتكامل ولم يلجأوا إلى آيات معينة من القرآن أو نصوص من السنة إلا في حالة وجود آيات لها دلالات قاطعة تتعلق بالقضايا المطروحة.

إن المقاربة التي يدافع عنها فضل الرحمن هي مقاربة جديدة على الرغم من أن عناصرها تقليدية وذلك بسبب أن الاستعارة لا تطال مجرد عناصر مقاربته فقط وإنما نظامها الكلي ومع ذلك فإن مقاربة فضل الرحمن للعلاقة بين الإسلام والحداثة هي أكمل مقاربة نظرية عملية.