ثورات الربيع وربيع الثورات ..بقلم د.احمد نوفل

 


ربما لم تغير أيام من حياة الشعوب مثلما غيرت أيام الربيع هذه من حياة العرب. وما انتفضت أمة على واقعها البئيس مثلما انتفضت هذه الأمة على واقعها في هذه الأيام. وحق لها. فما حاق ظلم بشعب كالذي حاق بالشعب العربي. ولقد سميت هذه الثورات بموسمها من العام.. واتصلت به اتصال السبب بالسبب والروح بالجسد فسميت ثورات الربيع. ليس فقط لأنها تزامنت معه وقتاً، ولكن لأنها ارتبطت به روحاً وقلباً. فكما يحيي الربيع –بإذن بديع السموات والأرض- كما يحيي الأرض، فإن ربيع الثورة أعاد الحياة بإذن بارئ الحياة إلى هذه الأمة. فلا جرم سميت الثورات بموسمها. فكان اسماً على مسمى. وكانت الثورات حقيقة بهذا الاسم، وكان الاسم حقيقاً خليقاً بها.
وهذه حلقتنا قبل الأخيرة وترتيبها الثامنة أو التاسعة لا في سلسلة الحديث عن الثورات مذ بدأت. فذاك حديث ينوف على العشرين ويزيد عنها بكثير. ولكن ضمن سلسلة بدأتها بعنوان لغة وسياسة مادة «ثور». ففي هذه السلسلة بالذات هذه حلقتنا ذات الرقم الذي قلت قبل قليل. فإلى اللسان:
قال في اللسان: «وقال الله عز وجل: «وأثاروا الأرض» أي حرثوها وزرعوها واستخرجوا منها بركاتها وإنزال زرعها. (هكذا هي ولعلها وإنبات زرعها) وفي الحديث أنه كتب لأهل جُرش، (بضم الجيم وفتح الراء، وهذه قرية باليمن، يبدو أنها كانت مشتهرة بصناعة الأسلحة والسيوف بالذات لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إليها من يتدرب على صناعة الأسلحة فيها.. كما في كتب السير.)
كتب لأهل جرش بالحِمى الذي حماه للفَرس والراحلة والمثيرة، وأراد بالمثيرة بقر الحرث لأنها تثير الأرض.»
(كتب بالحمى، أي أمره صلى الله عليه وسلم بإقرار الحمى وإنفاذه، وهو الأرض المخصصة للرعي، ترعى فيها الفرس والراحلة: الناقة والجمل المعدان للأسفار، وبقر الحراثة.. وهذه تكون ملكية عامة).
ونواصل مع ابن منظور في لسان العرب: «والثور برج من بروج السماء. (لا يقصد ما جدّ من جنون الأبراج وجنون البقر والثيران والتيوس والنعاج فلا تكاد تخلو صحيفة أو مجلة أو دورية من زاوية الأبراج، ولا أبالغ إن قلت إن كتب الأبراج تعد بالمئات، وإذاعة إسرائيل تخصص برنامجاً للأبراج يتصل به الناس وعليه ضغط اتصال لا يهدأ، فمن أراد الخِطبة أو دخول امتحان أو فحص سواقة يتصل «بحزبون» ليقرأ برجه «ويرشده» ماذا يفعل، يقْدم أم يحجم!! هذا في قرن الثور أقصد قرن النور لا بفتح النون!) قال اللسان: «والثور: البياض الذي في أسفل ظفر الإنسان. (انظر إلى أصابعك تجد في أسفل الظفر هلالاً أبيض. هذا هو).
(ويبدو أنه سمي الثور لظهوره. والثورة ظهور وسطوع!)
وثور: حي من تميم. وبنو ثور: بطن من الرباب وإليهم نُسب سفيان الثوري.
وقال الجوهري: ثور: أبو قبيلة من مضر وهو ثور بن عبد مناة.. وهم رهط سفيان الثوري.
وثور بناحية الحجاز: جبل قريب من مكة..
وقال غير الجوهري: ثور جبل بمكة، وفيه الغار: غار ثور. نسب إليه ثور بن عبد مناة لأنه نزله. (أي سمي الغار غار ثور لأن «ثور المضري» نزله..) وفي هذا الغار بَاتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما هاجر، وهو المذكور في القرآن، (إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا.) أ.هـ. من اللسان بإيجاز وتلخيص وتعليق يسير.
ووقفة سريعة مع الآية البديعة والكلمة الرائعة الرفيعة: «وأثاروا الأرض» فما أحوجنا إلى إثارة الأرض وثورة في الأرض لاستخراج كنوزها لا لنبددها بسفاهة في السرف والترف والقرف، ولكن لنصوغ به حاضرنا ومستقبلنا. فالأرض ثروة، واستخراجها واستغلالها يحتاج إلى ثورة. ثورة لاستخراج المعادن، وثورة في تخضير الأرض وزراعتها، وثورة في مياه الأرض وشبكات ري.. كل ذلك وأكثر منه عبرت عنه الكلمة القرآنية: «وأثاروا الأرض».
وقال القاموس في مادة «ثور»: «الثوْر: الهيجان، والوثب، والسطوع، ونهوض القطا والجراد، وظهور الدم، (يحرفها العوام، بدل ثورة الدم، فورة الدم، وهي عربية صميمة صحيحة!)، كالثؤور (على وزن الثغور) والثوران والتّثَوّر في الكل. (أي في كل ما ذكر.) وأثاره، وأثَرَه، وهَثَره، وثوّره، واستثاره غيرُه، والثور: القطعة العظيمة من الأقط. (الجميد بلغتنا) (والمصريون يقولون: فحل بصل والفحل ابن عم الثور) والثور ذكر البقر. والجمع: أثوار، وثِوَرة، وثيار وثَيَرة، وثِيرة، وثيران، كجيرة وجيران. وأرض مثْوَرة: كثيرته (يقصد كثيرة الثيران)، والسيد، والطحلب، (وكل ما علا الماء)، والبياض في أصل الظّفُر، والمجنون، والأحمق، وحمرة الشفق الناثرة فيه، وبرج في السماء وفرس العاص بن سعيد..) أ.هـ. أي اسم فرس العاص: ثور.. يقصد في القوة.
قلت: الأصل في المعنى: الهيجان والسطوع والنهوض والظهور. وكذا الثورات، يظهر فيها أناس كانوا في الخفاء ويختفي أناس كانوا تحت الأضواء.
ونواصل مع ما في القاموس: «وثوْر: أبو قبيلة من مضر، (وليس فيه أي رائحة للذم، بالطبع، ولكنه يلحظ فيه القوة والكِبَر بمعنى الضخامة والفخامة المادية والمعنوية!) منهم، يقول القاموس (أي من مضر): سفيان بن سعيد (أي الثوري)، وثور: واد ببلاد مُزينة، وجبل بمكة، وفيه الغار المذكور في التنزيل، ويقال له: ثور أطحل، واسم الجبل: أطحل، نزله ثور بن عبد مناة، فنسب إليه، (وثور): جبل بالمدينة، ومنه الحديث الصحيح: «المدينة حرم من عَيْر إلى ثور»، وأما قول أبي عبيد بن سلام وغيره من الأكابر الأعلام: إن هذا تصحيف، والصواب: «إلى أحد»، لأن ثوراً إنما هو بمكة، فغير جيد، لما أخبرني الشجاع البعلي الشيخ الزاهد، عن الحافظ أبي محمد عبد السلام البصري، أن حذاء أحد (أي إزاء أو بجوار أحد) جانحاً إلى ورائه جبلاً صغيراً يقال له ثور، وتكرر سؤالي عنه طوائف من العرب (البدو) العارفين بتلك الأرض، فكل أخبرني أن اسمه «ثور»، ولما كتب إلي الشيخ عفيف الدين المطري عن والده الحافظ الثقة قال: إن خلْف أحد عن شماله جبلاً صغيراً مدوراً يسمى ثوراً، يعرفه أهل المدينة خلفاً عن سلف. وثور الشباك وبرقة الثور: موضعان.
وثورَى: نهر بدمشق. وأبو الثورين: محمد عبد الرحمن التابعي. وثورة من مال ورجال: كثير (من الأمرين المال والرجال).
والثائر: الغضَب. والمثيرة: البقرة تثير الأرض. وثوّر القرآن: بحث عن علمه –وثوير بن أبي فاختة: سعيد بن علاقة- تابعي.
والثّويْر: ماء بالجزيرة من منازل تغلب، وأبرق لجعفر بن كلاب قرب جبال ضرية.» أ.هـ. من القاموس بتصرف يسير.
قلت: لاحظ دقة القاموس وتحقيق صاحبه وأدب العلماء مع بعضهم. هل لاحظت كيف قال عن خطأ أبي عبيد القاسم بن سلام صاحب كتاب الأموال، وعن قوله عن جبل ثور: جبل بمكة ونفيه أن يكون جبلٌ في المدينة بهذا الاسم قال: «قوله وغيره من الأكابر الأعلام إنه تصحيف غير جيد.» وعلل لماذا وأنه تتبع المسألة حتى تيقن مما قال بالسؤال.
فثور إذاً جبل بمكة وجبل بالمدينة ولا عجب. فالبيضاء في ليبيا وفي اليمن وفي سوريا وفي المغرب الدار البيضاء فما من مشكلة.
والآن نواصل ما كتبته «مريم بنت عمران» الكاتبة من الجزيرة في نظرية المعادل الموضوعي (وقد ذكرنا بعضه في مقال سابق) في شعر أبي ذؤيب الهذلي، وكيف وصف الشاعر  مصرع الثور وقارنه بموت أولاده فمنذ أن بدأ  ب «الدهر لا يبقى على حدثانه».. إلى أن يفيض في وصف الحمار الوحشي بمرحه ونشاطه، ومعه الأتان حيث يسيرون (هكذا قالت وهذه تقال للعاقل والعاقلة مش للحمار والعائلة) لقصد مواضع المياه، واللعب بمرح ونشاط وتوثب إلى أن يصادفهم الصياد وكلابه، فيسلط سهامه عليهم ويقتلهم واحداً بعد الآخر، وأولهم الحمار الوحشي موضع المثل:
فأبدّهن حتوفهن فهارب
بدمائه أو بارك متجعجع
وضرب المثل بالدهر وقضائه على الأحياء في الحقيقة سنة متبعة عند شعراء هذيل، يبغون من ورائها تأكيد حتمية الموت، ويلاحظ أن الأمثلة تبدأ بمطلع واحد، يوحي بمضمونه:
«والدهر لا يبقى على حَدَثَانِه».
وقد تناول غير شاعر صورة الثور وصراعه مع كلاب الصيد وخروجه منتصراً، والملاحظ أن الثور يخرج من المعركة منتصراً مزهواً عند أكثر الشعراء، كما يقول د. يحيى الجبوري في كتابه: «الشعر الجاهلي خصائصه وفنونه». إلا أن شاعرنا هنا مكّن سهام الصائد من قلب الثور ومكن الكلاب منه فصرعته وأردته. يقول الجبوري: إن هذا عند شعراء هذيل، ولم نجد أحداً منهم فعل هذا سوى شاعرنا أبي ذؤيب الهذلي. ولم يورد الجبوري ما يدل على أن شاعراً غير أبي ذؤيب من الهذليين قد صنعوا ما صنعه هنا..
وذكر أبيات أبي ذؤيب فلا نذكرها اختصاراً. وقد توفي أبو ذؤيب خويلد بن خالد الهذلي في عهد الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه في طريق مصر ودفنه ابن الزبير وهو من الشعراء المخضرمين الذين عاصروا الجاهلية والإسلام.» أ.هـ
ونظرية «المعادل الموضوعي» هي نظرية ت.س.إليوت، كما يشير فوزي الشايب في: «محاضرات في اللسانيات»، وإبراهيم خليل في «مقاربات في نظرية الأدب ونظرية اللغة».
هذا ما كان لهذه الحلقة، وقد بدأناها بربيع الثورات وذهبنا شرقاً وغرباً مع القاموس واللسان..
ونعود في عجلة إلى ما بدأنا به على أن نكمل حديث الثورات في الحلقة الخاتمة القادمة عن «منتهى الثورة».
لكن نسأل الله في ختام هذه الحلقة أن يكون هذا الربيع ربيعاً للثورات المنتصرة، ولأمة الثورات المنتصرة. ومع أن الربيع في حياتنا قصير لا يكاد يكون له وقت مميز.. فعسى يكون العوض في ربيع الثورات.. وثورات الربيع. وكل ربيع وكل ثورة والأمة بخير.