أردوغان والمختار!



غدا ربطُ تركيا - الدولة بأردوغان - الشخص عنوان حاضرها الوحيد المرتبك، إذ تنتقل من حال إلى نقيضها بلمحة عين! فما يُفترضُ من حيادية شخص الرئيس، منصباً، إزاء كيان الدولة المستمر قبل الرئيس وبعده، علامة على بعدٍ مؤسساتي حصين، يذبلُ ويخفتُ، حتى نكاد لا نرى من سعة الدولة سوى ضيق الرئيس.

 

 

في زمنٍ تأسيسيٍّ تلا تفكك السلطنة العثمانية، أثناء العشرينات، حصل هذا مع كمال مصطفى أتاتورك الذي بالغ في قطع صلة تركيا الجديدة مع ماضيها العثماني، فكانت العلمانية العسكرية الحادّة هي مصباح الغد القسريّ إزاء عتمة الماضي المنبوذ. ما يريده أردوغان هو العكس، فالماضي ما قبل الأتاتوركي هو مرشد السلطان الجديد إلى غابر سلاطين العهد العثماني، وما تصريحاته الأخيرة حول إعادة كتابة التاريخ والعودة إلى تصحيح معاهدة لوزان، التي سنّت حدود الدول بعد الحرب العالمية الأولى، سوى دليل غريب على واقعٍ يُراد له أن يسترشد بالماضي ويعيد تصويب اعوجاجه، وما سبّبه من خسارة لتركيا – السلطنة.

 

 

بدل اللحاق بقيم ديموقراطية معاصرة، وعقد سلام حقيقي مع الأكراد، حيث يشتد عودُ المستقبل وتتحصن البيئة الاجتماعية السياسية داخل تركيا، يوجّه أردوغان شعبه نحو ذرى الماضي السحيق. هذا جزءٌ من أعراض التعلّق بمجد غابر، وهو في الآن نفسه علامة سيئة على الخوف من خوض غمار وحل الحاضر بما يعنيه من معاصرة – ومصارحة تقتضي اجتراح سبل ألينَ في علاج أزماته وجبْهِ تحدياته.

 

 

بعد دراميّة الانقلاب الغامض السريع الفاشل في تموز (يوليو) الماضي، انقضّ أردوغان على جهاز الدولة التركية. عشرات الآلاف من موظفين عسكرين ومدنيين رُمي بهم إلى السجون أو أقيلوا من وظائفهم بجرّة قلم. امتدّ مبضع أردوغان الحادّ إلى الصحافيين وأساتذة الجامعات ثم إلى البرلمانيين أخيراً، فكرر خطأ الانقلابيين الذين قصفوا البرلمان ليلة الانقلاب، إذ أعاد قصفه بعدما زجّ بنواب حزب الشعوب الديموقراطي الأكراد في السجن.

 

 

مع أردوغان لا حصانة لأحد. لكن دولة كتركيا، في ظرف داخلي وإقليمي غير عادي، تحتاج إلى حماية وتحصين، لن تجد في سلوك رئيسها بوادر حماية داخلية وتمتين العمل الديموقراطي، فجهاز الدولة عندما يتحول إلى لعبة بيد الرئيس يفقد الأساس الذي أنشئ من أجله، وكلما ازداد الرئيس سطوة وتدخلاً قل منسوب حصانة الدولة.

 

 

لا تتوقف تدخلات أردوغان داخلياً وخارجياً في هندسة تركيا العثمانية. لكن السمة الغالبة في تحولات الرئيس هي الانقلاب السريع وأخذ الموقف ونقيضه، فهو ضد روسيا في سورية ثم معها، وهو مع أوروبا وضدها، وهو جزء من الناتو وضده... الخ.

 

 

علامَ يدل كل هذا إذاً؟ كلما علا سهم الرئيس انحدرت الحال بالدولة. تأرجُحُ تركيا بين أن تعود إمبراطورية على هوى أردوغاني أو تكون دولة مسالمة مستقرة، تحوُّلها من راغبة في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي إلى رافضة له ومهاجمة إياه، الى حدّ الزعم أن ألمانيا مثلاً تساعد "الإرهابيين الأكراد"! ثم بدل عقد سلام حقيقي مع أكرادها، تعود وتزج قادتهم وبرلمانييهم في السجن. وهؤلاء كان أحدهم، دمرتاش، مرشحاً للرئاسة التركية في الانتخابات الأخيرة!

 

 

في تركيا - أردوغان شيءٌ من روسيا البوتينية القيصرية بما تحمله من قسوة حلول عسكرية، وشيء من السلطانية العثمانية بما تقتضيه من شعبوية وحسّ إمبراطوري واهمٍ، وشيء من حلم أوروبي بما يستدعيه من مظاهر ديموقراطية، وشيءٌ من أسلمة اجتماعية يكون قادتَها الملالي لا أساتذة الجامعات التركية، ويكون المخاتير المعيَّنون لا الصحافيون المتسائلون، والدرك المطيع لا البرلمانيون المتمردون.

 

 

عسكرة الطموح التركي تمتزج مع الشعبوية مع الحس الإمبراطوري مع قشور ديموقراطية مزيفة، فيكون النتاجُ رئيساً يحلم مختار قرية نائية أن يتلقى دعوة لزيارته.