«الرؤية» ... الفستان والعروس



للمرة الأولى تمر على المملكة أزمة مالية كبرى ويناقشها أكثر من مليون مواطن وعلى العلن في وقت واحد. في الماضي وقبل خروج «تويتر» و «واتس آب»، كان بعض الأزمات المماثلة يمر لكن الناس لا يعرفون عنه إلا ما يتم إدراجه في بيان الموازنة ويناقش بين عدد قليل من المختصين في مجالس معينة. كنا في النهاية نتجاوز تلك الأزمات بهدوء على رغم أن المقارنة العلمية بين الماضي والحاضر لا تستقيم لأسباب عدة، أهمها بالتحديد وجود المتغيرات الهائلة في حجم الإنفاق الحكومي الناتج عن ارتفاع عدد السكان وتوسع المناطق الحضرية، وما يتبع ذلك من توسع في الخدمات كالصحة والتعليم والإسكان والنقل وغيرها. بمعنى أن التزامات الدولة في الماضي كانت أقل بكثير من اليوم.

 

 

الأزمة التي بدأنا نتعايش معها هذه الأيام بدأت مع بداية هبوط أسعار النفط قبل ثلاثة أعوام إلى الحد الذي ما كان أحد منا يتوقع الوصول إليه بهذه السرعة، وكونها أتت في وقت بلغ إنفاق الدولة ذروته في المشاريع، فكان لا بد من التعامل مع هذه الحالة بنوع من السرعة والجرأة لكبح جماح هذا الإنفاق وتفادي تجفيف الاحتياطات النقدية الاستراتيجية. المختلف هنا أن التعامل مع هذه الأزمة المالية تحديداً أتى على أكثر من خط، وأقصد بذلك تعامل الحكومة مع الوضع العام في المملكة، الذي ومع الأسف الشديد اعتمد على مصدر واحد فقط من مصادر الدخل، وهو مبيعات النفط، وتناسى البحث عن التنوع والإبداع. من هنا تبنى مجلس الاقتصاد والتنمية مهمتين: الأولى التعامل مع الوضع الراهن، والثاني بناء اقتصاد جديد متعدد الموارد وقادر على مواجهة التحديات. هنا ولدت رؤية السعودية ٢٠٣٠ التي كثر الجدل حولها أخيراً.

 

 

هل كان لدينا خيار آخر أفضل من التعرف والكشف عن عناصر القوة الاقتصادية الأخرى في البلاد ومحاولة استثمارها بما يكفل ميلاد مصادر دخل جديدة غير النفط ومشتقاته؟ بالطبع لا، ولا يوجد مواطن عاقل في المملكة يختلف مع هذا التوجه. الاختلاف الذي لا تخفى ملاحظته هذه الأيام يدور حول فهم هذه الرؤية والتطبيق الفعلي لعناصرها. هناك من خلط بين مراجعة بعض البدلات والأجور وإلغاء بعض المشاريع غير الضرورية وبين الرؤية، على رغم أن هذه الإجراءات لا ترتبط مباشرة بالرؤية نفسها وهي إجراءات ضرورية لوقف بعض الهدر، خصوصاً في البندين الأول والثاني من بنود الموازنة وهما البندان الثابتان الأكثر تضخماً في نفقات الدولة. هناك من لم يعر الوقت الأهمية المطلوبة وبدأ يتساءل من اليوم عن نتائج الرؤية وانعكاساتها على المواطن، جهلاً ربما بعامل الزمن المرافق لتنفيذ مراحل كل عنصر من عناصر النجاح المرتقب.

 

 

الذي لا يعرفه الكثيرون، وهذه حقيقة لا بد من قبولها، أن المملكة وبفعل التخدير المزمن بسبب مداخيل النفط لعقود عدة، لم تعد بتلك السهولة والرشاقة المطلوبة لقبول التغيير والانتقال بمجتمعها إلى مجتمع منتج. لدينا الكثير من المعوقات التي تقف سداً منيعاً أمام النجاح المرتقب لرؤية الغد، وهنا علينا أن نلوم أنفسنا قبل أي طرف آخر.

 

 

الرؤية كما اطلعت عليها تشبه فستان عروس جميل تم تصميمه بواسطة «فالانتينو»، ولكن بطابع سعودي. المشكلة برأيي ليست في الفستان، بل في العروس. عندما نباشر، وقد بدأنا بالفعل، في وضع هذا الفستان على جسم العروس وجدنا كل أنواع العيوب. ترهلات هنا وهناك وعدم تناسق في القوام واختلاط في اللون وفقدان النظارة. هذا برأيي يختصر الكثير من الشرح لهذه الحالة «الواعدة». من هنا، يتم العمل الآن من طرفين: الأول محاولة تعديل الفستان، من توسعة هنا وتقصير هناك وإلغاء بعض الأكسسوارات هنالك. من الجهة الأخرى يوجد عمل وبرنامج لتحسين جسم العروس وفرض نوع من الريجيم وبرنامج غذائي ورياضي أفضل. هل سينجح المصممون في الوصول لفستان لائق يتناسب وجسد العروس؟ هل ستنجح العروس في تحسين حالها والتخلي عن السمنة والمضي ببرنامج صحي مفيد يجنبها الأمراض؟

 

 

شخصياً، وقد سبب لي ذلك الكثير من الجدل ووضعني متلقياً للكثير من التشكيك والنقد في نقاشاتي مع الأصدقاء، أرى أن مجرد اكتشافنا بأنفسنا هذا الجسد وعيوبَه وترهلاته يعتبر بحد ذاته مكسباً هائلاً، أقول ذلك لأن الانطباع العام لدى الكثيرين وبفعل تخدير النفط لنا، جعلنا لا نرى الحقيقة. تلك الحالة المزورة دفعتنا للظن أننا كمجتمع وكوطن كما العروس الفاتنة التي لا ينافسها أحد في الجمال. الخطاب الشائع وكثرة «الهياط» دفعتنا إلى مستويات مرعبة من الغرور. الويل كل الويل لمن كانوا مثلي وتحدثوا قبل عقد أو عقدين عن بشاعة هذا الجسد واستحالة ظهوره على غلاف مجلات الأزياء. الغريب أنه عندما يجد أحدهم الفشل هنا أو هناك واقعاً لا يقبل الإنكار فهو يبادر باللوم على المتآمر الغربي. وهنا أتساءل حقيقة هل تآمر الغرب على وجود مجتمع ودولة بلا قوانين قضائية مدونة؟ وأقصد غياب تقنين القضاء. هل تآمر الغرب مع أعضاء في الشورى على رفض نظام الوحدة الوطنية والتحرش الجنسي وإبطاء الرسوم على الأراضي البيضاء؟ هل أدلجة التعليم وغياب مواد المنطق والفلسفة والبحوث المعتبرة مؤامرة غربية أيضاً؟ وهل تآمَرَ الغرب وشيَّدَ الاستراحات التي مزقت أوصال الأسرة وأهملت التربية السليمة؟ هل فوضى المرور وصعوبة التنقل والوصول بين مكانين في المدينة ذاتها مؤامرة غربية؟ هذه بعض من عللنا التي وضعت المملكة في مرحلة متخلفة في قائمة الدول الأكثر جذباً للاستثمار.

 

 

الخلاصة أننا نمر بمرحلة دقيقة وحساسة جداً وتجربة لم نعهدها بهذا الزخم من قبل. لقد ذهب زمن الاتكاء على مراتب براميل النفط وأتى زمن العمل والإنتاج والانضباط الذي تسير عليه كل دول العالم المتقدمة، حتى تلك الغنية بمواردها الطبيعية. علينا أولاً إعادة بناء الإنسان السعودي بما يجعل منه قيمة مضافة وميزة تنافسية وطاقة منتجة. برنامج كهذا يفترض أن يكون الشغل الشاغل لنا في هذه المرحلة. يجب أن تتحول المملكة إلى جامعة ضخمة تقدم المناهج وتختبر المواطنين في جميع سلوكياتهم وعملهم. علينا أيضاً تحضير البيئة المناسبة والجاذبة لتدفق الاستثمارات المحلية والأجنبية. جزء كبير مما أعاق إحاطة ذلك الفستان الأنيق جسد العروس، إضافة الى عوامل عدة مهمة، يكمن في ضبابية الأنظمة والبطء بتقنين القضاء كما أشرت. الحديث عن التحول الوطني حديث ذو شجون ويحتاج إلى مؤلفات، لكن أن نسير إلى الأمام ولو خطوة أفضل من لوم الآخر والتمحور في مكان واحد، أو العودة مجدداً إلى الوراء.

 

 

 

 

 

 

 

 

* كاتب سعودي.

 

 

للكاتبTags not available