هل تأخّر كشف قتل ياسر عرفات؟

 

من المفترض أن يكون لتصريح الرئيس الفلسطيني محمود عباس، قبل أيام، حول اغتيال الرئيس ياسر عرفات، وقع قنبلة سياسية ذات دويّ عال. يستند هذا الافتراض إلى توافر الحد الأدنى من الكينونة السياسية الوطنية القادرة على تحويل خبر من هذا العيار الثقيل إلى حدث ذي تبعات ومضاعفات. ومنعاً لأي التباس، سنسارع إلى التشديد على تمسّكنا بهذا الافتراض، إذ من دونه لا يمكن إضفاء صفة القوام السياسي والحقوقي المعاصر على الوجود الفلسطيني وعلى حركته الوطنية، على رغم تذررها وتخبّطها في متاهة العجز وانسداد الآفاق.

سنترك إذاً، لأهل السينيكية - الكلبية أن يواصلوا التبجّح الواعظ بأن المهم هو ثمن الأشياء لا قيمتها، أو، وهذه أنكى، بأن الثمن القليل يتطابق مع القيمة القليلة. بعبارة أخرى، إذا كانت القضية الفلسطينية تحولت إلى مشكلة زائدة وفقدت قيمة أسهمها في بورصة السياسات المعولمة وبات الفلسطينيون عبئاً يجري التخفف منه، فلماذا ينبغي التوقف عند جريمة قتل عرفات وإن كان رئيساً منتخباً ناهيك عن تزعمه عملية تجديد الحركة الوطنية الفلسطينية؟

لا نعلم ما إذا كان أبو مازن قصد بتصريحه غير المسبوق هذا، قلب طاولة لا يقتصر الاجتماع حولها على أهل البيت الفلسطيني. فهو أعلن بوضوح صارخ، أن الزعيم الفلسطيني الذي أقام مديداً في قلب الحياة السياسية العربية والدولية، أي ياسر عرفات، قُتل قتلاً وأنه يعرف اسم القاتل لكنه سيترك للجنة التحقيق الفلسطينية قرار الكشف عنه وعن ملابسات الجريمة. ينبغي التذكير بأنه حصل تحقيقان «علميّان» دوليان، واحد سويسري والآخر روسي، وجاءت النتائج متضاربة ولا تجيز الجزم بخلاصة نهائية. ولاذت السلطات الفرنسية طويلاً بالصمت ولم يصدر عنها في أعقاب التحقيقين الدوليين كلام واضح عن أسباب موت عرفات المفاجئ في المستشفى الفرنسي الذي نقل إليه على جناح السرعة من مقره المحاصر في المقاطعة.

هذه التحقيقات والتعليقات المتقطعة كلها جاءت لتبديد الشكوك المتعاظمة حول وفاة عرفات. وها هو أبو مازن يقلل، عن قصد أو عن غير قصد، من صلاحية كل ما قيل قاطعاً الشك باليقين. فوق ذلك، وعد أبو مازن المحتشدين في الذكرى السنوية الثانية عشرة على رحيل عرفات، بأنهم هم وكل متابعي القضية سيصابون بالذهول لدى معرفتهم باسم القاتل. لم يظهر حتى الآن أي رد فعل يشي بحدوث انفجار. لا شيء سوى صمت مريب.

تأويل الصمت يحتاج إلى بعض الرسوخ في العلم. ونرجح أن يكون هذا الصمت حمّال أوجه. فهو قد يعني أن قنبلة عباس دخانية أو صوتية أو هوائية. وقد يعتبرها البعض قنبلة حقيقية، لكن ينبغي التعامل معها كما لو أنها مجرد مفرقعات كلامية تهدف إلى تصفية حسابات متصلة بالنزاع الداخلي على السلطة. هناك في كل الأحوال، حرص على اعتبار مقتل رئيس فلسطيني منتخب، وحائز رصيداً رمزياً كبيراً، حادثاً عرضياً شاءه القضاء والقدر. وبما أنّ المقصود بطبيعة الحال قضاء الله وقدره، فإن المساءلة والمحاسبة تصبحان ضرباً من الشطط المفضي إلى الضلال.

قد يكون صحيحاً أن رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية تأخر كثيراً في طرح المسألة، وأنه لاذ بالصمت لاعتبارات تخصّه. وليس مستبعداً أن يكون سكوته قسرياً وتحت الضغط والابتزاز، علماً أن صمته عرّضه في مخيلة العديد من الناس لشبهات التورّط بهذا القدر أو ذاك في مقتل عرفات، أو في الأقل في تلفيق الموضوع والمراوغة فيه. وقد يكون صحيحاً أيضاً، أن عبّاس قرر تفجير قنبلة بسبب احتدام النزاع حول خلافته وحول إرث السلطة الوطنية وتمثيلها السياسي، وبسبب الخواء واليأس المخيّمين على حاضر المجتمع الفلسطيني ومستقبله في المدى المنظور.

لكن المسألة التي تعنينا تتعدى حسابات السياسة السياسوية كما يقال. فهذه يمكن أن نتفهم دواعيها ورهاناتها ومطبّاتها. والتفهم لا يعني التعاطف بالضرورة. ويمكننا كذلك، أن نضع جانباً إقدام محمود عباس، بعد لأي طويل، على ترجيح كفة كل الذين اشتبهوا أو حدسوا بأن وفاة عرفات جريمة قتل. وكان هؤلاء عرضة لتهكم الواعظين والتائبين الذين يتهمون الثبات على الحق بقلة الرشاد والانقياد الأعمى خلف نظرية المؤامرة العتيدة. وكان المؤرخ الفرنسي الراحل دومينيك شيفالييه، قد رجّح، في كتاب صدر بعد عام أو عامين على رحيل عرفات، فرضية القتل بالسم. وتساءل عمن عساه يكون الشريك العربي في الجريمة.

التمسك بضرورة إحقاق العدل في موضوع اغتيال عرفات لا يعفي من نقد مسيرته الحافلة بالأخطاء والمغامرات غير المحسوبة والمبالغة في تقدير القوة والحجم والثقل. غير أن هذا لا يقلل من قيمة النظر في مقتله وسكوت الإخوة والأشقاء والحلفاء عن الجريمة كمؤشر كبير إلى أحوال السياسة في المنطقة العربية. والحق أن مقتل عرفات ومروره، هو ومكاشفة محمود عباس قبل أيام، كسحابة صيف ينمّان عن الحالة الصفرية لتشكل العرب كفاعل سياسي ليس فحسب في العالم المتشابك الذي نعيش فيه، بل في قلب إقليمهم ومنطقتهم العربيين ونزاعاتهما الكثيرة.

في مقدورنا اليوم، خصوصاً بعد كلام محمود عباس، أن نقول إن عملية تسميم ياسر عرفات كانت التنفيذ التقني لقرار اتخذ من قبل ليس في دوائر التخطيط الإسرائيلي، فهذا تحصيل حاصل، بل في دوائر أكبر شأناً على الصعيد العالمي والإقليمي. عملية القتل السياسي لياسر عرفات حصلت في عهد جورج بوش الابن وزمرة المحافظين الجدد. ولم تنفع في شيء مسارعة عرفات غداة اعتداءات 11 أيلول (سبتمبر) إلى تقديم مشهد استعراضي يظهر فيه وهو يتبرع بالدم لضحايا الهجوم الإرهابي. كان جورج بوش قد أعلن عن رفضه مجرد مصافحة الرئيس الفلسطيني. وكان ذلك أشبه بحركة القيصر الروماني الناظر من علو إلى مبارزة المصارعين وقيامه بقلب الإصبع وتوجيهه نحو الأسفل كإيذان بالقتل. حصل هذا ولم يرفع أحد اصبعه احتجاجاً على مثل هذا السلوك الغانغستري الذي لا يليق بدولة تتزعم العالم في زمن الحداثة والأنوار.

تناوب الإسرائيليون وحكوماتهم المتعاقبة على إنهاك عرفات والقوى الوطنية الفلسطينية وتصفية الانتفاضة وصولاً إلى محاصرته مدة عامين في المقاطعة. لم يبق سوى تنفيذ حكم الإعدام.