الانتخابات الأميركيّة والديكة الروميّة البريّة

 

في فيلم وثائقي رائع على التلفزيون الأهلي الأميركي قبل سنوات عدة، قدم باحث في علم الحيوان قصة حياته مع ستة عشر فرخاً من الديكة الرومية البرية التي عاشت معه لمدة عام كامل على أنه أمها وأنها تبعته في كل مكان إلى أن أخذها نداء الطبيعة بعيداً منه واحداً بعد الآخر. الفيلم مؤثر بطريقة مدهشة، لكن أكثر ما جذبني فيه عبارة فلسفية قالها الباحث بعد فقده أولاده الديكة الرومية كلها: «تعلمت منها الكثير، لكن الدرس الأهم أن الديكة الرومية البرية تعيش اللحظة فقط، تتمتع بها من دون اعتبار للماضي أو ترقّب للمستقبل».

ظننت لفترة طويلة بعد سماعي هذه العبارة، أنها ملاحظة عميقة يجب عليّ، علينا جميعاً، الأخذ بها لكي نعيش حياة أقل هموماً وقلقاً. لكني، وأنا أتابع مجرى الانتخابات الأميركية الأسبوع الماضي، وجدتني أتذكر هذه الأمثولة برعب حقيقي. فالشعب الأميركي الذي انتخب دونالد ترامب رئيساً، يبدو أنه فقد القدرة على التعلم من الماضي أو التهيؤ للمستقبل، وأنه أضحى يعيش اللحظة فقط: اللحظة التي تسكن مخاوفه من واقعه وتدغدغ مشاعره بتفوق متخيل، والتي علّبها له دونالد ترامب وآلته الانتخابية بأكثر الطرق فجاجة وسوقية.

لا أريد العودة إلى مقارنة حملة ترامب الانتخابية بحملة منافسته الديموقراطية هيلاري كلينتون، ولا حتى العودة إلى حملة بيرني ساندرز، التي جعلت كثراً منا يتفاءلون بعودة وعي سياسية إلى الجيل الأميركي الجديد تحاول استعادة زمام المبادرة من طبقات المتنفذين وممثلي المصالح الرأسمالية الكبرى، الذين سيطروا فعلاً على الحياة السياسية الأميركية في العقود الثلاثة الأخيرة على أقل تقدير، بغض النظر عن كونهم يدعمون مرشحين ديموقراطيين أو جمهوريين. ولا أريد المفاضلة بين البرامج الانتخابية (أو انعدامها في حالة ترامب) التي قدمها المرشحون في هذا الموسم الانتخابي، ومقارنتها ببرامج انتخابية سابقة أو تحليل تغيُّر محتواها ومنحاها باتجاه محافظ أكثر تشدداً عموماً، وبطغيان الأفكار الاقتصادية النيو ليبرالية عليها وعودة الانعزالية الأميركية الشهيرة من بدايات القرن العشرين للإطلال فيها. فهذه كلها نقاط تكرر تحليلها والإشارة إلى أخطارها داخلياً وعالمياً في الصحافة الأميركية والعالمية على حد سواء. ما أريد التركيز عليه هو ما ألاحظه كشخص يقيم في الولايات المتحدة منذ ٣٦ سنة ويمارس حقوقه السياسية هنا بانتظام. وأظن أني لا أبالغ إذا قلت بأني ألاحظ منذ زمن، تدهور الوعي السياسي عند طبقات عدة من الشعب الأميركي وصعود فلسفة انعزالية وتفوّقية في الآن نفسه ترى أن العالم أصبح مكاناً خطراً بالنسبة الى أميركا، وأن أنجع الحلول في مواجهة هذا الواقع هو التعامل معه بعدوانية أو الانعزال عن أخطاره ومقاطعته، بل بناء جدران حقيقية تمنعه من التسلل إلى الفضاء الأميركي الاستثنائي.

الظاهرة الأخطر في الحقيقة هي ظاهرة العيش لليوم أو كما تقول عبارة هوراس، الشاعر الروماني، الشهيرة «انتهز اليوم»، والتي ترمز عادة الى موقف الأبيقوريين أو المتعويين الذين كان هوراس واحداً منهم. لكن هذه الظاهرة المرعبة في أميركا اليوم تجاوزت فكرة التلذذ بالعيش لليوم، التي نهت عنها كل الديانات والمنظومات الأخلاقية، والتي تحدتها الفلسفة الحداثية وقلبتها أدوات الاستمتاع الإلكترونية رأساً على عقب. وهي قد تطورت إلى موقف شبه وجودي اعتنقته شرائح واسعة من الشعب الأميركي، التي وجدت أنها خسرت كل ما لديها في النظام الاقتصادي النيو ليبرالي المعولم الذي فرض عليها فرضاً في العقود الأخيرة، والتي لم تسعفها أجهزة الدولة، سواء كانت بإدارة جمهورية أو ديموقراطية، في استعادة رخائها المادي الماضي أو احترامها لنفسها كمجموعات واعية سياسياً ومتماسكة اجتماعياً. التفكيك الاقتصادي، الصناعي والزراعي والخدماتي، الذي شهدته الولايات المتحدة أخيراً، والنظام المالي الجشع والنهاب الذي سيطر على موارد الناس والشركات من طريق انفلات إدارة الديون والفوائد وصعود منظومات استثمار خطرة ومتهورة، أديا إلى إفقار مزرٍ لجموع كبيرة، ما تسبب بانحلال اجتماعي وأخلاقي لم يسعفه تدهور نظام التعليم أو اضمحلال دور المؤسسات الثقافية العامة بسبب الاقتطاع المستمر لأجزاء متعاظمة من ميزانياتها على مدى الثلاثين عاماً المنصرمة.

هذه هي خلفية الانهيار السياسي والأخلاقي والمعرفي وفكرة الاستقالة من الحياة العامة أو العيش للحظة من دون معرفة بالماضي أو التشوف الواعي للمستقبل، التي طبعت ردة فعل كثر من الناخبين الذين أيدوا انتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة. ترامب نفسه هو نتاج هذا النهج الاستهتاري الجاهل، وهو قد لقي آذاناً صاغية لدى العديد من الأميركيين الذين يشاركونه المقاربة من الحياة العامة التي تفاخر بها خلال حملته الانتخابية. فهو لا يقيم وزناً لسلطة الدولة ويتهرب من دفع الضرائب بانتظام. وهو لا يحترم النساء أو الأقليات ويفاخر بسوقيته الجنسية التي على ما يبدو تجد استحساناً لدى كثر من الرجال الذين فاجأتهم نجاحات حركة تحرر المرأة التي كادت توصل امرأة إلى سدة الرئاسة. وهو لا يهتم بالتزامات الولايات المتحدة الدولية التي تشكل عبئاً مادياً ومعنوياً على من يريد التقوقع داخل بلاده الشاسعة والاستمتاع بخيراتها من دون حساب أو التزام تجاه البيئة أو النظام الاقتصادي العالمي. وهو يخاف من صعود الملونين والأقليات واقترابهم من تشكيل أكثرية عددية في الولايات المتحدة قد تهدد سيطرة الرجل الأبيض على مقدرات البلاد، والتي يراها ترامب ومؤيدوه منحة إلهية طبيعية. وهو لا يتوانى عن التباهي بالقوة العسكرية والقتالية للولايات المتحدة، ولن يتردد في استخدامها لحل نزاعات مع دول أجنبية، بخاصة إذا كانت من دول المستضعفين في الأرض أو الأدنى منزلة عرقياً.

في قصة فراخ الديكة الرومية البرية الستة عشر التي كانت تعيش ليومها، ماتت خمسة عشر منها قبل إكمال عامها الأول. ربما ماتت راضية بما أنها لم تعرف التعلم من الماضي أو التخوف من المستقبل. لكنها ماتت. طبعاً لا أظن أن قدراً مشابهاً ينتظر الشعب الأميركي. ولا أظن أن الولايات المتحدة ستفقد ديناميتها العملية أو سيادتها العالمية في أي وقت قريب بغض النظر عن سياسات ترامب التي لا نزال لا نعرف شيئاً واضحاً عنها. لكن شيئا مهماً تغير في هذه الانتخابات، وهو ربما كان تغيراً لا عودة عنه باتجاه نظام سياسي أقل تمثيلاً وأقل وعياً، ولو أني لا أشارك المخرج التقدمي مايكل مور استنتاجه الحدي عن هذه الانتخابات، علماً بتعاطفي مع مشاعره وتخوفاته في شكل عام. فهو أنهى مقالاً غاضباً له عن الانتخابات قبل الإعلان عن نتيجتها بعبارة وجهها لناخبي ترامب: «أردتم أن توجهوا رسالة غاضبة [للنظام السائد]، رسالة محقة ورسالة مبررة. لقد وصلت مع اقتراعكم. لكنكم قد انتخبتم آخر رئيس للولايات المتحدة».