مليك الجان،،،وذاكرة المكان

 مليك الجان،،،وذاكرة المكان

 

 

 

 

ليلة البارحة لم تغفوا عيني ولم أتذوق طعم النوم من شدة حرارة جسدي المتعفن لأجلس على شرفة منزلي المتهالك أحتسي فنجان من الزهورات وبيدي الأخرى سيجارة بريئة ،،،يسامرني الليل ووحشته تكاد تكون هي الغالبة على فكري وجلست أقلب صفحات الماضي وهذيان المرض يضعفني لأجلس على المقعد (القش) الخاص بي من بقايا الزمن المنصرم وذهبت بغفوة أذابت الجليد المشتعل من جوف عيوني الصغيرة،،، يحاورني بالمنام مليك الجان،،،ويقلب صفحات الماضي معي لمدينة هي الأشهى والأنقى لأشاهد وجوه الأصدقاء القدامى من على المقاعد الدراسية لأصرخ وأنادي بصوت خافت وأنين يغلفني لاشتياقي لتلك الصداقة التي أمضيت أجمل سنين عمري،،، أين أنتم يا أصدقاء العمر وأين ذهبتم أين أنت يا قصي النسور وأين حسن صهيوني ومحمود الشمايلة وأشرف الفاعوري وفاخر الحياصات والعم ونايف النسور والأخ محمود قطيشات وأبو المعتز بالله ورائد العمايرة وعلاء نوار أين أنتم مني أين جيران الحي القدامى وأين قواوير الفل والورد والياسمين المنزرعة على أدراج المنازل وأين أبو قاسم وأبو خلف حرّاس الحي، أين ذهبوا وأين المختار أبو محمود وأين الخاتم الرسمي خاصته أين بقاله أبو ياسين وماذا حل به بعد هذه السنين أين سيل عمان وأين بستان أبو شام وأين مؤذن الجامع أبو طلال وأين فرن أبو محمد أين خبز الطابون وأين لبن المخيض الذي كان يباع من السعن من العم أبو راشد أين بائعين الحلوى وأين فنجان القهوة السادة أين المشربيات القديمة ومن سرقها وأين الشرفات الحديدية ،،،منازل كتب عليها عبارة (المنزل للبيع) آه على تلك الأيام الخوالي ماذا حلّ بأهل الحي القديم وأين صيحات الأطفال،،، منازل هجروها أصحابها منذ سنين لم يعد شيء سوى حجارة على وشك السقوط السريع ونوافذ مهشمة.

 

أين عبد الوهاب وأين سيد مكاوي وأم كلثوم وعبد الحليم ومن سرق عود فريد الأطرش وأين أصبحت تنام فيروز أين أصبح الرجال يتسامرون وأين هاجرت النساء الشرقيات اللواتي ليس لهم مثيل كم أشتاق لرائحة طعامهم وزغاريد كانوا قد أطلقوها بفرح أحد أبناء الحي وأدعية لا مثيل لها بالرضا وطول العمر والنجاح الباهر.

 

قد اشتقت لشرب الشاي على قارعة الطريق والسلام على المارة كم أشتاق لسرقة الراديو الخاص بأبي وسماع أغنية أم كلثوم المسائية آه كم أشتاق لتلقيط الخبيزة  وإبرة العجوز والحويرنة والفطر آه كم أشتاق لنبش أعشاش العصافير وسرقة البيض من جيران الحي لدجاجة الحاجة أم سليم وسرقة أرنب للعم أبو ناصر من على شجرة المشمش.

 

كم اشتاق لبوط الرياضة  الصيني خاصتي واللعب بملعب السفارة الأمريكية وكم أشتاق لشجرة التين والتوت والنوم على أغصانها وكم تمنيت إمساك الخيط لطيارتي الورقية التي حلّقت منذ أربعون عاماً لغاية هذه اللحظة ولم تعاود الهبوط كم أشتاق لعرس حقيقي وللدبكة الشعبية وزفة العريس على الطرقات.أين العادات القديمة الأصيلة أين محبة الناس لبعضها البعض أين الصدق وأين الرجال الرجال وأين النساء النساء.قد طال ليلي وكبر همي وشاط غيظي.

 

كم أشتاق لبرنامج فكر واربح لرافع شاهين وكم أتمنى أن أسمع صوت المذيع إبراهيم شاه زادة ورؤية المذيع الرائع محمد أمين بدأت أسمع صوت مازن القبج وبرنامجه اليومي (الأرض الطيبة) وصوت المذيعة كوثر النشاشيبي ببرنامج(من الأهل والأحبة سلام) وما يطلبه المستمعون كم أتمنى أن أشاهد مسلسل (حارة أبو عواد) الذي شاهده غالبية الوطن العربي لسنوات

 

كم أتمنى أن أشاهد حبال البامية والثوم تزين منازل الحي وتجفيف البندورة بواسطة الشمس وأشاهد نفسي وأنا أقذف الحصا على سيل عمان وأشتم ورودا على بقايا ضفاف بستان أبو شام وألملم الضفادع وأبو ذنيبة وكم أتمنى أن أصلي بمسجد الشراكسة بمنطقة المهاجرين وسماع شيخي وهو يقرأ القران الكريم وسجادة صلاتي الصغيرة التي سرقت من طفل لا يذكر مكانها كم أتمنى أن ألعب الجلول وحدر بدر والعجل والسلك وصنع سيارات سلوكية وعمل جرّافة بعلبة سردين فارغة وكم أشتهي اللعب على رمل صويلح وعمل لوحة داخل زجاجة وكم أتمنى أن أجد (نملية أمي) المفقودة وصندوقه جهاز عرسها الخشب وكم اشتقت لبدلة أبي العسكرية ورائحة شماغه الذي عجز عنها كل صانعي العطور العالميين ولم أشتم لغاية هذه اللحظة رائحة تشابه رائحته وكم أتمنى أن ألمع حذائه العسكري

 

كم أشتهي ولو لمرة واحدة الذهاب إلى سوق الخضار مع أبي الحبيب وجلب أشهى الخضار والفاكهة مع التذوق المجاني.

 

وفي هذه اللحظة الحزينة لحظة المرض وضعف الحال لم أتماسك ووقعت من بين أحضان مليك الجان أرضاً وأمسكت زوجتي بيدي ودمعتي على ذقني وخدي وأردد وأقول (يا أيها الزمن الماضي) عد من جديد فقد تعبت أجسادنا هذه الأيام ولم نعد نستطيع.

 

ألا ليت الزمان يعود يوماً،،،ليخبره بما فعل به المشيب.