حُمى الأحزاب


لا يمر يوم أو بعض يوم، إلا وتسمع عن جلسة عصف فكري، أو اجتماع "مغلق" بغية تأسيس حزب أردني. الحالة الشعبية بين مؤيد ومعارض للدولة المدنية، حفزت مبادرات متعددة لتأسيس أحزاب حول هذا المفهوم، ومع أن هذا التحرك – وعلى قاعدة النصف الممتلئ من الكأس – قد يوحي أن فوبيا الانضمام أو تشكيل الأحزاب في طريقها إلى الزوال، إلا أن ذات الظاهرة تطرح على العقل السياسي الأردني سؤالا محوريا؛ هل الاحزاب آلية فاعلة في الإصلاح ؟ خاصة وقد بلغ عددها –بين مسجلة وتحت التسجيل – ما يقارب السبعين حزباً.

عوامل فشل الأحزاب الناشئة في الدول النامية متشابهة تقريبا، وأهمها: شخصنة الحزب؛ حيث يتمحور الحزب فكراً وأداء ومؤسسات حول شخص ما، فيصبح الحزب ذراعا أو رافعة سياسية لذلك الشخص بدل أن يكون الحزب رافعة للوطن، أيضا غياب الديمقراطية والشفافية والحاكمية الرشيدة في مؤسات الحزب، فيضحي بذلك الحزب مؤسسة شبه فردية تدار لرغبة شخص أو شخصين، ومن عوامل الفشل أيضا غياب الشباب عن تلك الأحزاب بفعل الترهيب الذي تباشره السلطة وبفعل أن خطاب وجمهور بعض هذه الأحزاب بعيد عن عقلية الشباب ومطالبهم وهي حبيسة عقلية متقاعدين سياسيين.
أيضا ضعف التمويل عامل مهم في فشل الأحزاب وهو ناتج أصلا عن أن الأنظمة العربية لم تؤمن بدور الأحزاب، إلا حيث تكون هي الأحزاب الحاكمة، بل إن تلك الأنظمة عاملت الأحزاب باعتبارها معارضة غير مشروعة وغير وطنية، واستبدت في استخدام كل وسائل السلطة لترهيب الناس - وخاصة الشباب- من الأحزاب.
المعضلة الأخطر التي تعطل فاعلية الأحزاب، تتمحور في الأيدولوجيا؛ فمع أن كل حزب يجب أن يقوم على فكر أو أيدولوجيا تميزه، إلا أن أيدولوجيا الأحزاب في الدول النامية تحل محل البرنامج العملي للحزب، العالم اليوم يعيش مرحلة ما بعد الأيدولوجيا بمعناها التقليدي، حيث تتوجه الأحزاب في عملها لبرامج عملية اقتصادية وسياسية لمواجهة الإشكاليات التي يواجهها المواطن يوميا، ومن هذه الزاوية تكون الأحزاب البرامجية رافعة للعمل السياسي الحزبي والبرلماني، والواقع أن الأردن يحتاج اليوم برنامجا عمليا يتصدى لمشاكل الناس اليومية، ويصون حرياتهم وحقوقهم، وهذا البرنامج قد يكون متعدد المشارب يركن اقتصاديا لسوق حرة، وهو مراقب من قبل الدولة، بهدف حماية المنافسة المشروعة ومحاربة الاحتكار وتركز السلطة والفساد، وقد يعتبر هذا توجهاً ليبراليا وأيضا يقوم ذات البرنامج على دعم الدولة للتعليم والصحة والمواصلات ضمانا للعدالة الاجتماعية وقد يكون هذا توجها اشتراكيا.
الأحزاب البرامجية اليوم هي الطريق الأمثل لتفعيل الحياة السياسية في الأردن ولخلق حالة حيث يكون هناك حزب أو ائتلاف أحزاب حاكمة وحزب أو ائتلاف أحزاب معارضة، مما يقيم أهم قاعدة في شفافية الحكم وهي "الردعٌ"؛ ردعٌ بين حكومة نجحت على أساس برنامج عملي وواقعي وموضوعي، وبين معارضة راشدة تملك برنامجاً رشيداً واقعيا وموضوعيا.
الأحزاب مفتاح الطريق لحياة سياسية راشدة، ولكن على هذه الأحزاب كما تطلب من الدولة أن تكون ديمقراطية وشفافة وبرامجية أن تقوم هي أيضا بتكريس الديمقراطية والحاكمية الرشيدة في مؤسساتها ذاتها.
معلومٌ أن الدستور الأردني لا يقيد الحياة الحزبية بعدد معين من الأحزاب، كما أنه ليس بالضرورة أن تكون الخريطة الحزبية في الأردن تشابه الخريطة الحزبية في أميركا أو بريطانيا؛ لكن العقل والمنطق يقولان إنه من غير الفعال أن تكون هنالك أحزاب صغيرة متناثرة بينها ذات الجذر الفكري والبرنامج العملي، وحيث ندعو إلى تعديل القانون ليعتمد الأحزاب في تشكيل قوائم المرشحين للبرلمان، فإننا ندعو أيضا إلى أن تقوم مبادرة وطنية شعبية لمحاولة تجسير الهوة بين الأحزاب وتجميع المتشابه منها فكراً وبرنامجاً للاندماج لمحاولة تخفيف الزحام لصالح الفعالية والشفافية وزيادة القدرة المالية والبرامجية والتخطيطية لتحقيق معادلة تداول السلطة بين حكومة فعلية وحكومة ظل على أسس من برامج واقعية موضوعية هدفها خدمة الأردن والمواطن الأردني، قد يرى البعض أن هذا الطموح ما هو إلا بعض من أعراض الحمّى، ولكن رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة.