لاستقرار النقدي: القصة سياسية



على مدى السنوات الماضية، ورغم قسوتها وصعوبتها تمكّن الأردن من تجاوزها، ولم ينجرف الاقتصاد لأزمة مشابهة كتلك التي تمر بها مصر اليوم، ولم نقترب من الخيارات الصعبة الحقيقية.

الفضل، بدرجة كبيرة، يعود لسياسة البنك المركزي النقدية التي أدركت منذ سنوات المصير الصعب والسيناريوهات القاسية التي كانت بانتظار الاقتصاد.
بالفعل، عبرنا قسوة السنوات ومطباتها، وتعثر الاقتصاد وتباطأ، وانخفضت معدلات النمو، إلا أن النتائج كانت طيبة، أقله ليست كارثية؛ حيث أبعدت السياسة النقدية والوضع القائم سيناريوهات يلمّح لها البعض بحتمية الاقتراب منها، رغم أنها من الخطوط الحمراء في السياسة النقدية، وهي سعر العملة.
فمنذ سنوات، وبالتحديد مطلع العقد الحالي، كان موقف محافظ البنك المركزي ثابتا بهذا الخصوص، ربما لأنه عاش تجربة العام 1989 ويدرك أوجاعها، وتبعاتها الكارثية.
السياسة والاستقرار النقدي، بحق، ليس إلا إدارة قوية للاستقرار السياسي، ويخطىء من يظن ان السياسة النقدية ليست سوى أرقام صماء، لا أبعاد سياسية وأمنية لها.
اليوم، ومقارنة بدول أخرى، كان آخرها مصر، تبدو الأحوال لدينا مختلفة، فالاحتياطي الأجنبي من العملات الصعبة يقترب من 13 مليار دولار، فيما تأمل مصر بضخامة اقتصادها ان يبلغ الاحتياطي الأجنبي في بنكها المركزي نحو 25 مليار دولار.
الأردن صمد وتجاوز الصعوبات، رغم أنه لم يتلق ذلك الدعم الكبير من دول خليجية كانت بالغت بسخائها مع الشقيقة مصر، وقدّمت لها عشرات المليارات من المنح والقروض والودائع لدعم استقرارها النقدي.
اليوم، ونحن نقترب من حافة مرحلة جديدة، علينا النظر إلى ما تحقق والاستمرار بتطبيق سياسات نقدية حصيفة، ومجدية، ومدركة للمخاطر، لتساعد على تجاوز مطبات لم تفلح دول أخرى بتجاوزها بسلام.
على مدى سنوات، طبق "المركزي" رؤية أردنية وطنية، استشرفت المشكلات وسعت لحلها، فوفّرت نوافذ للإقراض والتمويل لقطاعات مختلفة، منها السياحة وتكنولوجيا المعلومات، والطاقة المتجددة، وأيضا استطاعت أن تؤسس لحاكمية رشيدة في إدارة القطاع المصرفي، فوضعت أنظمة حوكمة البنوك.
بصراحة وفي ظل الظروف الصعبة، لا يمكن لعاقل أن يفصل بين استقرار أداء "المركزي" وجني نتائج السياسات النقدية المستقرة لسنوات عن الاستقرار الاجتماعي، لأن أية اختلالات في هذه السياسة، وأية قرارات غير مدروسة، ستجلب نتائج لاتحمد عقباها.
اليوم، يجلس على قمة إدارة البنك المركزي الاقتصادي المخضرم د.زياد فريز، وهو الواعي للأبعاد السياسية لعمله الفني البحت، لأن لعبة المركزي وسياسته تتجاوز الأرقام والحيثيات الفنية إلى قصة سياسية، الواعون فقط يدركون أبعادها.
مشكلة المسؤولين الاقتصاديين أنهم لطالموا تعاملوا مع ملفاتهم من وجهة نظر فنية بحتة تماما، مع إسقاط الحسابات السياسية من أذهانهم ومعادلاتهم على أهميتها، تماما كما حدث في اتفاقية استيراد الغاز من المحتل الاسرائيلي، وهذه هي العقدة التي تعطل سير العجلة، وتوصلنا لنتائج غير منطقية.
في المرحلة الحالية، ونتيجة لحساسية الموقف، واستمرار المخاطر التي تطلّ علينا من الإقليم، ومحدودية بعد نظر المؤسسات الدولية مثل صندوق النقد والبنك الدوليين، يقع على عاتق البنك المركزي، ومحافظه، بكل خبرته، تحد جديد ليتجاوز بنا صعوبة السنوات المقبلة، دون خسائر تذكر.
نسمع همسا من بعض المسؤولين المحليين والأجانب غير مريح، يؤكد عدم إدراكهم لأبعاد ما يهمسون به، والوقوف بالمرصاد لما يؤشرون عليه يحتاج الى محافظ بنك مركزي سياسي قبل أن يكون اقتصاديا.
اليوم، ونحن نستذكر ميلاد الحسين نتذكر جليا كيف تجاوز الأردن أزمة العام 89 بسلام وبرؤية سياسية، إذ كان المخرج، حينها، سياسيا وفنيا في ذات الوقت.