فوز ترامب: تجديد الحلم الأميركي أم جرّ العالم الى الجنون؟

 

مرة أخرى تخيب التوقعات، وتسقط في فخ الرغائبية نتائجُ استطلاعات الرأي التي كانت ترجّح فوز هيلاري كلينتون على دونالد ترامب في انتخابات الرئاسة الأميركية.

مرة أخرى يتوارى العقل والمنطق ويتقهقران لمصلحة عقل آخر لعله مجازاً «عقل الجنون». ومرة أخرى ينكشف هزال التوقعات الاستراتيجية، وغياب العلم اليقين عن طبائع الناخب الأميركي الذي أضحى مختلفاً وساعياً وراء تدشين متاريس حمائية لا تدري بها استطلاعات الرأي، ولا مراكز الدراسات، ويعلم بها أكثر من هؤلاء جميعاً ترامب الذي يطلّ كما لو أنه في فيلم هوليوودي، ويقلب الطاولة على رؤوس الجميع.

وفي سياق التوقعات الأقرب إلى التكهنات يجري تسويق الذرائع التي سبقت الفوز بأنّ ترامب سيجرّ العالم إلى الحروب، وسينهي الحلم الإمبراطوري الأميركي، وسيواصل عداءه ضد النساء، والمهاجرين، وسينشئ المتاريس والجدران لعزل الولايات المتحدة عن العالم، وهي أضغاث أحلام، وليست أكثر من أوهام يلوكها الإعلام الكسول الذي أثبت جهله في معرفة نفسية الناخب الأميركي، ومحركاتها، والبواعث التي جعلت ترامب يحظى بنسبة فوز قياسية، ويطيح المرشحة الديموقراطية، ويجعل الفضائح التي لاحقته محض هراء، لأنها في المحصلة النهائية ليست عاملاً مرجحاً في حسم اختيارات الأميركيين.

والفضائح جزء من السيرة الذاتية لأميركا التي لا تنسى أبداً ما فعله بيل كلينتون، لكنها غفرت له، وأبقته في موقعه، وراحت في ما بعد تصفه بأنه واحد من أبرز الرؤساء الملهمين الذي أقاموا في البيت الأبيض. ويستدعي ذلك النظر في المنظومة الأخلاقية الأميركية التي يبدو أنها تختلف بشكل كبير عن المنظومة الأخلاقية التي تعارف عليها العالم والعقل السياسي، ما يجعل المرء يجازف بأنّ الأميركيين يكتبون أخلاقهم الخاصة، ويتصرفون وفقاً لإملاءاتها.

ومن بين هذه الإملاءات، تتسرب نزعات عنصرية، وأخرى انكفائية نحو الداخل، من أجل إعادة تأهيل الروح الأميركية الجريحة، وتضميد الأمل، و «تجديد الحلم الأميركي» كما قال ترامب في خطاب الانتصار.

أميركا تتغيّر منذ زمن بعيد، وإن كان بشكل بطيء وخافت، وترامب أحد تجليات هذا التغيير، وسينتظر العالم وتيرة متسارعة لتغيير قد يقارب حدود الانقلاب أو الجنون أو الفانتازيا، لكن ترامب، عديم الخبرة بالسياسة كما وصفه خصومه، سيحاول أن يقنع العالم بأنّه الأكثر معرفة بالسياسة، وعلى طريقته الخاصة.

لعل العالم والولايات المتحدة لا يحتاجان كثيراً إلى العقل التقليدي، في هذه القنطرة التاريخية الملتبسة. لعلهما يحتاجان إلى قفزات غير متوقعة باتجاه حسم القضايا العالقة التي ربما يكون ترامب الأكثر قدرة على إنجازها، لأنّ مقدار المجازفة لديه كبير، وليس من المناسب أن نصفه بأنّه ليس لديه ما يخسره، بما أنه فقد الكثير من فضائله في تراشقات الحملة الانتخابية التي بالغت في تأثيمه وشيطنته من أجل ثني الناخبين عن التصويت له، لكن هؤلاء أغرقوا الصناديق تأييداً له، وتتويجاً لنزقه وانفعالاته البلهاء.

كأن الأميركيين يعشقون هذا الطابع، أو أضحوا يعشقونه. أعني الطابع التلقائي العفوي المشاكس الذي يفكر بصوت عالٍ ولا يختفي وراء بلاغة أوباما الذي جعل السياسة الأميركية قرينة المراوغة والدهاء الكاذب، فترك العالم وراءه غابة من الحرائق والعواصف والمستبدين والموتى الذي يغرقون في عماء سياسة واشنطن واستراتيجيتها العابثة.

سيعيد المجنون، ســـيدُ البيت الأبيض بلا منــازع، التوازن للدور الأميركي، وسيعقلن على طريقته، الصراعات، وربما يفضّ النزاعات إذا توافر لجنونه دعم في مراكز صنع القرار، لا سيما في الشأن الخارجي.

الدرس البليغ الذي يأتينا من واشنطن في هذه الآونة، أنّ الولايات المتحدة مقبلة على تجديد ذاتها وخطابها وأولوياتها. فالناخب أدرك أنّ الأحلام الإمبراطورية أرهقته واستنزفت صورته وموارده، وآن الأوان برفقة ترامب لإعادة بث روح من طراز آخر تطيل التحديق في الداخل قبل أن تنظر في المرآة فتصاب بإعياء العظمة. أميركا تعالج آثار شيخوخة بدت على ملامحها، وهي تتذكر بهلع ما نظّر له شبنغلر عن «العمر الافتراضي للحضارات»!