عن الحدود «الروحية» أو «المجال الحيوي».. لتركيا!

 

لا أحد بمقدوره التنبؤ بما سيدلي به الرئيس التركي رجب طيب اردوغان من تصريحات الآن, وبخاصة بعد فوز دونالد ترامب برئاسة الولايات المتحدة الاميركية, هذا الفوز «الترامبي» الذي طابق هوى اردوغان، بعد ان لم تُخْف انقرة نفورها من هيلاري كلينتون, وتخوفها من استمرار سياسية اوباما السوِّرية (والعراقية), إن لجهة استمرار واشنطن في الرهان على الكرد (قوات سوريا الديمقراطية) كقوة ضاربة ضد تنظيم داعش ,وبخاصة في توفير «مظلة» لهم لعدم الانسحاب من منبج و في دفعهم ومرافقتهم «جوِّياً» لتحرير «الرقة» بالضد من التحذير التركي الذي يرفض مشاركة منظمات «هامشيّة» تدعم «الارهاب» في تحرير عاصمة «الخلافة» أم في التباس موقف ادارة اوباما من مسألة تحرير الموصل, وميلها «وإن بغموض لافت» الى تأييد موقف بغداد من رفض اي مشاركة تركية في تحرير عاصمة محافظة نينوى, وغضّها الطرف عن ذهاب الحشد الشعبي (الشيعي المتطّرِّف في نظرِها) باتجاه تلعفر لطرد داعش منها وقطع طريق إمداده من الاراضي السورية, او على نحو ادق عدم السماح لمقاتلي داعش وقادته, الهرب من الموصل باتجاه الحدود السورية.

صحيح ان اردوغان كان من «اوائل» زعماء العالم الذين هنأوا ترامب بفوزه, وصحيح أيضاً ان مستشاري الرئيس الجمهوري المُنتخَب, رأوا – وما يزالون – في تركيا الحليف الاطلسي «الاوثق» في المنطقة التي «تحارب» داعش, بل هناك مَن خرج علينا (مستشار ترامب العسكري) بوصف الداعية فتح غولن بانه «بن لادن تركيا», ما يعني امكانية استجابة ادارة ترامب المقبلة للطلب التركي تسليم غولن، إلاّ انه من الحكمة عدم التسرع بالقياس او الاعتماد على التصريحات والمواقف المنقولة عن فريق ترامب, الذي ما يزال تحت تأثير نشوة الفوز غير المتوقع والمدوّي, لمرشح بلا تجربة سياسية او عسكرية خاض معركة يائسة ولكن قاسية وصعبة, استطاع ان يحقق فيها انتصاراً، قد يؤول في وقت قريب الى انتصار بطعم الهزيمة, إذا فشل في «إنتاج» فريق سياسي منسجم داخلياً وخارجياً, او نظر الى تجربة بوش الابن كأنموذج يحتذى في سياسته الخارجية, الأمر الذي قد يخلق فوضى عالمية يصعب التكهن بمآلاتها وسيرورتها.

ما علينا..

ليس ثمة ما يدفع اردوغان الى تغيير نبرة تصريحات وطبيعة سياساته الانفعالية القائمة على استغلال اللحظة الاقليمية والدولية الراهنة, للمضي قُدُماً في الترويج لخططه وبرامجه القائمة على إحياء «العثمانية» والتأسيس للجمهورية «الثانية» التي وضعها نصب عينيه منذ ان اعتلى السلطة وخصوصا بعد «الرياح» الجديدة التي وفّرتها المحاولة الانقلابية الفاشلة في منتصف تموز الماضي، لأشرعة «سفينته» ومشروعه القائم على «وراثة» اتاتورك (اقرأ دفن الاتاتوركية) وتكريس «الاردوغانية» في المشهد التركي «كما يأمل» في العام 2023, مستغِلاً ذكرى مئوية الجمهورية «الاولى» التي أعلنها مصطفى كمال، لينطلق الى فضاء تركي واقليمي جديد، بدأه بحملة واسعة لتذكير الجميع بأن لتركيا «حقوقاً» وإرثاً «عثمانياً» خصوصاً في المنطقة العربية» يجب «استرداده»، ثم ليعتلي صهوة الارهاب في سوريا كي يستعيد المدن والمساحات الجغرافية التي اقتطعها المُستعمِرون الغربيون من الاراضي التركية (كما يزعم) بعد هزيمة الامبراطورية العثمانية وتفككها في الحرب العالمية الاولى وبعدها, وكانت انظاره شاخصة على الدوام, الى الموصل وكركوك وحلب وحمص.

الان وبعد افتضاح الخريطة التركية القديمة/ الجديدة التي ضمّت محافظات سورِية وعراقية, والتي كان أقرّها آخر برلمان عثماني في العام 1920 قبيل اعلان الجمهورية التركية الحالية, والتي سميت في حينها «ميثاق المِلّل» او «الاقوام»، يخرج علينا اردوغان «ناحِتاً» مصطلحاً جديداً هو النفوذ او الحدود «الروحية» لتركيا, الذي هو أوسع بكثير من حدود الدولة الجغرافية الحالية، إلاّ انه وإن كان نفى في شكل رخو وملتبس, ان تكون لانقرة مطامع للاستيلاء على اراض جديدة، فإنه في الوقت ذاته لم ينجح في إخفاء وجود تلك المطامع وسعيه لتحقيقها عندما قال الخميس الماضي: اننا لسنا منغلقين داخل حدودنا الجغرافية، الحدود الجغرافية شيء واحد، أما الحدود الروحية فشيء آخر تماماً، وهو لم يتوقف هنا بل استطرد كاشفاً مطامعه الحقيقية: يعيش اشقاؤنا في سوريا والعراق وفي البلقان وفي القوقاز وفي القرم (ناسيا عن غير قصد الويغور التركمان في الصين)... انهم خارج حدودنا الجغرافية، لكنهم في «قلوبنا».

يقصد «التركمان» بالطبع، وهو - واركانه - يقولون انهم لن يقفوا مكتوفي الايدي إذا ما تعرضت مناطقهم لأي تغيير ديموغرافي, بل هو - ورئيس وزرائه السابق داود اوغلو - عَمِلا عن «تنظيم» مقاومة «تتارية» ضد «الاحتلال» الروسي للقرم (بعد ان ساءت علاقتهما بموسكو قبل عام تقريباً).. ناهيك عن حكاية كركوك والموصل وبعشيقة وتل عفر وشمال سوريا وغيرها من الالاعيب التركية والاصابع العابثة بأمن واستقرار سوريا والعراق.

النفوذ او الحدود «الروحية» الاردوغانية, تُذكِرنا بالمصطلح الذي روج له النظام النازي في المانيا عندما كان يتحدث عن «المجال الحيوي» لالمانيا, وأيضاً ما تمارسه اسرائيل ضد المنطقة العربية عندما تتحدث عن الحدود «الآمنة» التي يجب ان تعيش فيها، والتي تتجاوز حدودها الجغرافية غير المعروفة وغير المحددة.. حتى الان.