حكم القانون كأساس للوحدة..!


يمكن البدء في الحديث عن وحدة الشعب الأردني من عدد لا نهاية له من الأماكن غير المتوقعة. على سبيل المثال، شعَر نحو خمسين سائقاً وركابهم بالغيظ هذا الصباح في شارع واحد ولحظة واحدة، حين تجاوز سائق تاكسي كل مواطنيه الملتزمين في الطابور، وسلك المسرب الآخر بعكس السير، ليصبح الأول عند الإشارة الضوئية في الأمام. وبعده، تجاوز عدة سواقين مواطنيهم الواقفين على الإشارة، فأغلقوا المسرب الأيمن الذي ينبغي أن يكون مفتوحاً للمتجهين إلى اليمين، ودخلوا عنوة على الإشارة التي عادت حمراء قبل أن يتمكن الملتزمون بالمسرب بالمرور.

للأسف، لا يقتصر السلوك الاجتماعي المزدري للآخرين والمثير للحنق على السير، وإنما يظهر بكثافة في المعاملات والتعاملات وكل شيء. وأينما نظرتَ تقريباً وفي أي وقت، ستجد أناساً لا يقيمون اعتباراً لمواطنيهم ويرون أنفسهم أحق منهم وأعلى، ولا يريدون أن يكونوا معهم ومنهم، ولا يجدون حرجاً في كسر القوانين والأعراف والأخلاق، معتقدين أن هذه هي سمة التميز على مواطنيهم، محتمين بالعضلات الشخصية أو الصلات أو مختلف الانتماءات والعصَب، أو بمجرد الرغبة في الاحتجاج. وللأسف، في حين يتوحد الأردنيون كثيراً عند المصائب، فإنهم ينفصلون ويتشاجرون في الرخاء النسبي، وكأن الانفصال هو القاعدة.

الطبيعي أن يأتي الشعور بالقوة والأمن من الاندغام في المجموع الأكبر، على أساس التغاضي عن الاختلافات والبحث عن المشتركات. والمواطنون الواعون فقط هم الذين يقدرون نوعية الضمانة التي توفرها الوحدة والانسجام بين أبناء الوطن الواحد، خاصة بعد أن بينت الأحداث لكل صاحب عَين ما يعنيه عكس ذلك. وفي الحقيقة، لن يريد أي مواطن أن يأخذ أحد دوره أو يتجاوزه بواسطة أو تنمُّر، لكن كثرة المتجاوزين في كل مجال تجعل المتردد أقرب إلى اتباع النمط: لماذا لا أستعين بالواسطة حين يستخدمها الأكثرية؟ ولمَ لا أتعالى بالعصبة عندما يرهبني بها الآخرون؟ ولماذا لا أخالف مثل البقية، حينما يعني الالتزام أن يتجاوزني الآخرون؟

لا شك في أن الأساس العاطفي لوحدة الأردنيين يتجلى في التضامن الملفت عند الشدائد القومية. لكن مشكلة الوحدة تظهر في النمط السلوكي الاجتماعي الذي ينبغي أن يعرض هوية مشتركة إيجابية وتضامناً على أساس يومي. لا يمكن الحديث عن وحدة حقيقية إذا ساد العلاقات تنافس سلبي وقفزٌ على أكتاف الآخرين وإصرار على اختطاف حصتهم. ولا يهمُّ في النهاية أن يتحدثَ المعظم عن الوحدة في الخطاب، ويتجاهلونها في الممارسة بحيث تكشف الشخصية الاجتماعية عن فصام جوهري واتجاهٍ نزَويّ. وأتصوّر أن الشرط الموضوعي الأساسي لتحقيق وحدة أي شعب، بحيث يتماهى الخطاب والممارسة، هو سيادة حكم القانون.

حكم القانون هو الذي يضع كل المواطنين على نفس الدرجة من الحقوق والواجبات ويضبط الأهواء الفردية والنزوات. وهو الذي سيعطيك الشعور بأن غيرك لا يستطيع أن يتجاوزك بغير حق، وبأنك لن تفلت بتجاوز غيرك وادعاء التعالي عليه. وهو الكفيل بترويض النزعات الفردية أو العصبوية واعتناق مختلف التصورات لماهية التميز ووسائله. وهو الكفيل بأن يجعل الجدارة وحدها أساس التقدم، بحيث يتميز الفرد فقط بالعمل الجاد والمنتج في إطار حركة المجموع.

حكم القانون، هو الذي يوحِّد تعريف المواطنة، والمواطنين، على أساس الاحترام المتبادل بين الناس وبينهم وبين الدولة، وفق القواعد التي يرتبها القانون والدستور ويفرضانها على أي كان وبلا أي حصانات. وعندما يُطبق حكم القانون ويكون مزوداً بالأدوات لوضع الجميع تحت مظلته ويقلل هوامش "الحرية" في انتهاكه، سوف تتلاشى أسباب الحنق والرغبة في التشاجر وأخذ الحق باليد والتزاحم على الأسبقية دون اعتبار للوسائل.

فقط حين يصبح المتجاوزون والمعتقدون بتميزهم فئة قليلة جداً ومعزولة وعرضةً للمحاسبة الفورية أمام القانون، وحين تصبح المخالفات والسلوكيات المستفزة أشياء نادرة تشاهَد في الشهر مرة، سوف يمكن الحديث عن وحدة حقيقية بين المكونات الثرية للمجتمع الأردني.