النزاهة والشفافية

ان النزاهة والشفافية اهمية مطلقةومن سمات النفس البشرية حبها للأخذ، و الأخذ هنا كل ما أضاف قيمة ما و أسبغ بهجة معينة، فهذا يشكل لها مصدر متعة طال أو قصر مداها. وبكل نزاهة وشفافية حب الأخذ على الدوام يترادف و حب الذات؛ أي ما يعرف بالأنانية، مع أن لحب الذات في الحقيقة دلالة أعمق و أبلغ من هذا المفهوم السطحي، إذ من تمام حب المرء لنفسه حبه للعطاء و تفانيه فيه؛ مستشعرا و مدركا أنه حين يعطي فإنه في الحقيقة يأخذ، يأخذ فيض مشاعر امتنان و عرفان ممن يمدهم بعطائه ليروي به ظمأ قلب صدأ شَغَفه و يهيج صحوة عقل تبلد حسه. و العطاء لا يكون دوما ممثلا في ما هو مادي، فإظهار التعاطف الصادق عطاء، بذل الوقت لمد يد العون عطاء، حب الإستماع لهموم الغير عطاء، و النصيحة الخالصة كذلك عطاء… والنزاهة والشفيافية مهما اختلفت أشكال هذا العطاء أو الإنفاق؛ يبقى القاسم المشترك بينها هو البذل بدون إحساس بالإرغام على الفعل، و بلا انتظار لأي مقابل. و تتحدد استمرارية هذا العطاء بتجلي نية المعطي، فإذا كان العطاء لنية مبيتة لاستمالة الآخر و الحصول على تقديره فسرعان ما يخبو هذا العطاء بخبوّ المقابل: “ثناء الغير” ، و على العكس من ذلك؛ إذا كان العطاء لله فلن يألو المرء جهدا في بذل المزيد من وقت و عمل، و قد قيل في هذا المعنى: “حين يستريح قلبك للعطاء من أجل الله عزوجل، فسرعان ما تتوالد فيه مسراته، فإن للعطاء لذة خاصة تفوق لذة الأخذ بما أخذ”. و في السيرة النبوية مواقف جليلة لأسمى معاني العطاء، لمن وجدوا في العطاء لذة تبادر لها جوارحهم للبذل و تنتشي لها قلوبهم ملتمسين رضى الله عنهم، ومن هذه المواقف ما رواه عبد الله بن مسعود قال: لما نزلت آية: ” من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له” قال أبو الدحداح الأنصاري: و إن الله ليريد منا القرض؟ قال صلى الله عليه و سلم: نعم يا أبا الدحداح. قال: أرني يدك يا رسول الله. قال: فناوله رسول الله يده. قال الأنصاري: قد أقرضت ربي حائطي (بستاني) قال و حائطه له فيه ستمائة نخلة و أم الدحداح فيه و عيالها. قال: فجاء أبو الدحداح فنادى: يا أم الدحداح، قالت لبيك، قال: اخرجي من الحائط فقد أقرضته ربي عز وجل.فقال النبي صلى الله عليه و سلم: ” كم من عذق رداح (تقيل لكثرة ما فيه من تمر) في الجنة لأبي الدرداح” رواه أحمد. وإن كان للعطاء لذة تلازم الشعور؛ فإن له كذلك نتيجة تتجلى، بعد استشعار رضى الله و حبه، في إخراج الفرد من حيز “الأنا” الضيق إلى حيز “الغير” الرحب ناقلا إياه من إحساس الضنك لإحساس الغبطة الحقيقية، و هذا ما يحصل حين يعيش المرء ليعطي.. نعم النزاهة والشفافية فنحن حين نعيش لأنفسنا فقط نعيش صغارا و نموت صغارا، و حين نعيش لغيرنا فإن أعمارنا تمتد بكل بسمة رسمناها على شفاه الغير و سعادة أدخلناها على قلوبهم بصدق وامانة واخلاص م.جهاد الزغول