نموذج طريف للعقل العربي


أميركا ليست هي الله العلي القدير"، هذه العبارة من ديوان قديم لنزار قباني، مضيفا في شطرها الثاني أنه " قد تقتل الكبير بارودة صغيرة في يد طفل صغير" !
قصيدة نزار القديمة كانت في الرد على الكسالى، والعجزة، والمهزومين، الذين إذا أصابتهم مصيبة لم يجدوا غير شمّاعة أميركا !!
فإذا انهار بنك فلأن أميركا عبثت بأسعار النفط، وإذا اصطدم قطاران في الصعيد فلأن ال "سي آي ايه " وضعت منوّماً في شاي سائق القطار، وإذا انتشرمرض غير مألوف فهذه مؤامرة أميركية لقطع نسل العرب، وإذا فشل صبحي في ليلة دخلته فلأن البنتاغون متخوفٌ جداً مما سيكون عليه أولاد صبحي !!
هذه السذاجات التي شكّلت فقه الشارع في العالم الثالث، لم تكن لتزعج المؤسسة الرسمية في هذه الدول، كما قد يتبادر للذهن لأول وهلة، فهي على العكس من ذلك تماما ترفع المسؤولية عن كاهلها، وتبرؤها من أي فشل اقتصادي أو سياسي أو تنموي، وتحيل بكل التخلف الحاصل على مشجب أمريكا !!
وأميركا طبعاً لن تغضب، فهي ليست بهذه السذاجة التي تنصت فيها لكل خزعبلات الشارع ، فلديها من الاهتمامات أكثر بكثير من أن تقلق بـ (خلفة صبحي ) !!
قبل سنوات شاع بين الناس في بلد ما أن حبة "الفيتامين" التي يأخذها الأولاد في المدارس مفخخة بسمّ اسرائيلي، وقبلها شاهد الناس ملائكة على طريق حفر الباطن (لابسين أبيض بأبيض ) ويقاتلون مع الجيش العراقي، وفي السودان قال رجل أنه يشفي العميان وأن المخابرات الأميركية عرضت عليه ملايين كثيرة لكنه لن يبيع "علمه " لأعداء الإسلام !!
نظرية المؤامرة أراحت الناس ، وأراحت الحكومات ، وبرأت التخلف في دول كثيرة ، وجعلت من أميركا المتهم الوحيد حين سقط بهجت (أخو صبحي غير الشقيق ) في التوجيهي ، وحين انهدّ سقف البيت على توحيدة في قرية اندونيسية نائية، وعندما فشل نظمي في فحص السواقة للمرة السابعة !
....
لستُ بصدد تبرئة أميركا مما طال الشرق من حروب وويلات واحتلالات ، وأنها هي التي قسمت العالم إلى "فسطاطين" ، قبل أن يفعل أسامة بن لادن ذلك، وأنها هي من زرع هذه الكراهية في العالم الفقير ضد العالم الغني ، وهي من صنع للعالم رأساً يمشي عليه بعد أن كان يمشي على قدميه !
أميركا ليست بريئة من أي جريمة كبرى .. لكنها بالمقابل بريئة من سذاجاتنا وخزعبلاتنا، ومن خراريف الدهماء التي ينسجونها اعتباطا، ويروّجونها في السوق مثل "حلاوة المولد"، فيتلقّفها الذين أجّروا عقولهم، (والذين اذا خاطبهم الجاهلون ..) استمعوا وانصتوا وهزّوا رؤوسهم إعجابا بحكمة الجاهلين !!
....
فأميركا على بأسها ، كما يقول نزار في بيت آخر من القصيدة ، لن تمنع الطيور من أن تطير، وهي بالتالي لا تمنع عالما أو مفكرا أو مخترعا أن ينجو ببلده وشعبه من ظلام الجهل ، ولن تقضي الليل والنهار تفكّر وتسخّر مختبراتها لتحليل الحمض الجيني لبسّام الذي وصفه صبحي بقوله : لولا ال "سي آي ايه" لكان ابني هذا عالماً مهمّا وربما (اشتغل محلّ البرادعي ) !!
مع أن قلّةً فقط يعرفون أن بسّام يحمل توجيهي بريدي راسب ، وتسبب بفشل محل تأجير البسكليتات الذي عمل فيه !!
....
الذي أقصده أن الشارع ، في العالم الثالث، تمت تهيئته على مدار عقود طويلة، ليصدق اليوم وبسهولة ما قاله زعيم دولة اسلامية كبرى العام الماضي " أميركا تعمل على تأجيل ظهور المهدي المنتظر، ولدينا وثائق تثبت ذلك " ! وما قاله زعيم أصغر رتبة الأسبوع الماضي ان حرب تحرير الموصل هي انتقام تأخر قليلا لمقتل "الحسين بن علي" عليه السلام !