حرية الفرد الاجتماعية.. بين الحقوق والواجبات وسيادة القانون




جاء في ثنايا الأوراق الملكية النقاشية الستة، تفصيلات كثيرة هي التي تميز المواطن والدولة المدنية، وجاء في جوهرها الأصول والنظم والثوابت، وكل ما من شأنه الانتقال بالدولة، من حالة النمطية التقليدية، إلى حالة أكثر تطوراً وانفتاحاً، وفقاً لأحدث المقاييس الدولية المتميزة، والأكثر حداثة ورقيا كيفاً وكماً، فأحسب أن أولى هذه التفصيلات التي تدور مع الدولة الحديثة، هي أن الإرادة الوطنية حرة، ولكنها في نطاق الجبر، فكذلك حرية الفرد الاجتماعية هي حرة، ولكنها بالمثل محددة، أي في نطاق محتمات اجتماعية، تقتضيها ضرورة التعايش الاجتماعي. بمعنى؛ أن الفرد ليس حراً في مسلكه الاجتماعي، يصوغه كيف يشاء، وعلى نحو يعنُّ لهواه، كما أنه ليس مسلوب كل حرية إجتماعية، وتركه خادماً مطيعاً، يراد على شيء، لا إرادة له فيه، يتلقى الأمر فلا يملك إلاَّ أن يهرع صاغراً إلى تنفيذه وهو ليس بهذا ولا بذاك، لأن أمور الناس في مجتمعاتهم، لا تستقيم إلاَّ إذا سارت وفق طبائعهم المركبة فيهم، والتي تقطع بأن إرادة المواطن خليط من القدرة والعجز، ومزيج من السلب والإيجاب، ومن ثم فهو مؤثر متأثر وفاعل ومنفعل...


وبحسب مفهومنا للأوراق الملكية النقاشية وفي جوهرها، يتضح لنا؛ أن الحقوق والواجبات في المجتمع، تمر بدورة ثلاثية، فللفرد قبل الفرد حقوق، وللمجتمع قبل الفرد حقوق، وعليه له حقوق مقابلة، فثمة طرفان أصيلان في هذه القضية، ولكنهما يتواجهان على أنحاء ثلاثة: وهما الفرد والمجتمع. وتكون المواجهة الأولى من الفرد للفرد، والمواجهة الثانية من الفرد للمجتمع، والمواجهة الثالثة من المجتمع للفرد.

في المواجهة الأولى، يتبادل الأفراد الحقوق والواجبات على أساس العدل، الذي ترعاه الدولة. وفي المواجهة الثانية، نرى الفرد المواطن يواجه الدولة ويطالبها بحقوق، وسنده في ذلك انتماؤه إلى أحزاب دينية أو سياسية أو لنقابات مهنية، أو منظمات مدنية، أوانتماؤه إلى عشيرته أو قبيلته، القادرة على الصمود وتحصيل حقوقه أمام الدولة، أما في المواجهة الثالثة، فنرى الدولة تطالب المواطن الفرد بأداء الواجبات التي يفرضها عليه القانون نفسه، وبالطبع فإن الدولة تدعمها في هذه المواجهة قوتها التنفيذية البحتة، إن دعت الضرورة إليها.

ويتضح من هذه الدورة الثلاثية، أن الفرد بالفعل مناط الحق والواجب في المجتمع، فهو إما مطالب بأداء ما هو مفروض عليه، من واجبات تجاه الدولة، أو تجاه غيره من الأفراد، وإما صاحب حق يطالب المجتمع أو سواه من الأفراد بتأديته إليه. ولذلك يقال، إن نجاح السعي إلى تحقيق الحرية الاجتماعية بمعناها الديمقراطي، منوط بشيء واحد ثابت وأصيل، وهو تعميق مفهومها الصحيح لدى الأفراد، بحيث تتكون لديهم القدرات والحوافز، التي تعطي الفاعلية لعملية تبادل الحقوق والواجبات في إطار سيادة القانون وثوابته.

فالتربية التعليمية السليمة، هي التي تجعل هذه العملية، عملية تعاون للأخذ والعطاء في رفق وهوادة، لا عملية شد وجذب، أو تطاحن وصدام عنيف، ثم إن هذه التربية تتجه بطبيعتها إلى تثبيت مواقف معينة من مشكلات الحرية الاجتماعية، لدرجة تجعلها منحى في سلوك الفرد، لا يقوم على التعمل المصطنع، أو التكليف الشاق. ومن هذه المواقف، مثلاً؛ أن يعمل الفرد ما وسعه جهده على تبني الآراء والأفكار، الهادفة إلى دعم البناء الاجتماعي أو الروح الجماعية في الوطن، وان يجاهد بغير هوادة أية محاولة تستهدف قصر الحرية الاجتماعية على طبقة دون سواها، مهما كانت سعة القاعدة التي تحتلها في المجتمع، فتحكم الطبقة الرأسمالية أو الحزبية أو غيرها، واستئثار أيهما بالسلطة، دون غيرها من طبقات المجتمع، عمل لا بد أن يقابله الفرد بالمعارضة الصريحة والمقاومة الصلبة.

وفيما يختص بعلاقة الحرية بالسلطة، فإنه ينبغي التسليم، بأن الفكر الفردي لا يستبعد إحتمال وقوع نوع من التصادم بينهما، لهذا دعت الورقة الملكية السادسة النقاشية، إلى سن القوانين ووضع الدساتير ورفعة مكانة القضاء وتمييز رجاله، التي تحكم العلاقة بين السلطة والأفراد، بحيث لا يجوز لأي من الطرفين أن يتجاوزها أو يحيد عنها، فالفكر الديمقراطي يتأسس، على أن ثمة علاقة متوازنة، بين الحريات الفردية والسلطة، وأن هذه العلاقة، يضبطها القانون الذي يوضع بطريقة ديمقراطية. أي الذي يشارك الشعب فيه، عن طريق ممثليه في مجلس النواب المنتخب بطريقة نزيهة وسليمة وشفافة.

إنّ القانون الذي يتم وضعه بالطرق الديمقراطية، هو بالضرورة قانون عادل ومتوازن، ومن هذا المنطق يستمد القانون قوته الإلزامية، كما تستمد السلطة قدرتها على الحكم، فهي تلزم الأفراد باتباع القانون، في الوقت الذي تلتزم هي نفسها به. وهذا الالتزام المزدوج، هو الذي يؤدي إلى المصالحة الفعلية، بين الحرية الفردية والسلطة الحاكمة، ويؤدي إلى التنمية والانتاجية، ويهدف في النهاية إلى عدم الاختلال بميزان القوى بين الحرية الفردية والسلطة.

في الجملة؛ إنَّ ثوابت الورقة الملكية النقاشية السادسة وكل ما جاء في مفرداتها وغاياتها ومتطلباتها وأهدافها تعني أن سيادة القانون على المواطنين، لا تتم عن قسر وارغام، بل عن طواعية، ورضى من هؤلاء الأفراد؛ وليس المهم في ذلك كله، أن تجيء طاعة الناس للقانون رهبة من عقابه، لأنه لا فضل لخائف في سلوك يتصرف به عن خوف، إنما المهم – عند تمييز المواطن في الدولة المدنية- أن تنبثق الطاعة من الداخل. إيماناً من الطائع بأنه إنما يطيع نفسه،ما دام هو المواطن الحر الذي إختار بإرادته الحرة من يسنون له الشرائع، وفي هذه الحالة ليس في الموقف متبوع وتابع، وسيد ومسود، وآمر ومأمور، بل في الموقف مواطن حر يقنن لنفسه ويطيع ما قنن بلا تمييز أو تفريق أو محاباة أو محسوبية.

وإنَّ سيادة القانون وسيادة النظم على أفراد المواطنين، هي علامة أولى في تمييزنا لمواطن الدولة الحديثة، تتبعها علامة أخرى متفرعة عنها، هي المسؤولية الخلقية ومدى إتساع أفقها لتشمل في حدودها الأمة كلها، ودون أن يطبق لينحصر في حدود الأسرة الصغيرة، التي ينتمي إليها المواطن، ومهما يكن الأمر، فإن الدولة المدنية للمواطن لاتتحقق إلاَّ إذا نسي المواطن – وهو بإزاء القانون – كل صفاته إلاَّ واحدة، وهي أنه مواطن بين سائر المواطنين. فالدولة المدنية نظم قبل أن تكون أفراداً. والدولة المتخلفة أفراداً قبل أن تكون نظماً.